08/10/2022
الإيمان عند الأشاعرة في ضوء عقيدة أهل السنة والجماعۃ
محمد مصطفى عبد السلام
طالب دكتوراه في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الملك سعود
-------------------------------------------------https://archive.org/details/5_20221008_20221008_1916
التمهيد: معنى الإيمان:
أ- الإيمان في اللغة:
الإيمان لغةً: هو مصدر آمن يؤمن إيماناً، فهو مؤمن، ومعناه: التصديق، قال تعالى: ﴿وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِين}[يوسف:17]، أي: بمصدِّق( ) ( ).
ب- الإيمان شرعاً: هو إقرار باللسان وتصديق بالجنان، وعمل بالأركان؛ يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ( )( ).
المبحث الأول: حقيقة الإيمان، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: حقيقة الإيمان عند الأشاعرة( )
إن الأشاعرة لم تكن على مقالة واحدة في مسمى الإيمان، وفي هذا البحث سأذكر أشهر أقوالهم الذي عليه أكثر أصحابه، كالقاضي أبي بكر الباقلاني، وأبي المعالي الجويني وغيره، فالمعروف عندهم الإيمان هو التصديق، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية "وأما الأشعري: فالمعروف عنه، وعن أصحابه: أنّهم يوافقون جهماً في قوله في الإيمان، وأنه مجرّد تصديق القلب، أو معرفة القلب"( ).
قال أبو الحسن الأشعري في اللمع: فإن قال قائل ما الإيمان عندكم؟ قيل: الإيمان هو التصديق بالله وعلى ذلك إجماع أهل اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، قال الله تعالى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ [إبراهيم: 4]، فلما كان الإيمان في اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، هو التصديق كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا﴾ (يوسف: من الآية17) أي: بمصدق لنا، وقالوا جميعاً فلان يؤمن بعذاب القبر والشفاعة ، يريدون يصدق بذلك، فوجب أن يكون الإيمان هو ما كان عند أهل اللغة إيمانا، وهو التصديق "( ). (ويشبه كلام الباقلاني في التمهيد كما سيأتي).
فقد ذكر القاضي أبو بكر الباقلاني(ت: 403ه) في الإنصاف: "واعلم أن حقيقة الإيمان هو التصديق، واعلم أن محل التصديق هو القلب"( ).
وقال في التمهيد: "فإن قال قائل: خبرونا ما الإيمان عندكم؟ قلنا: الإيمان هو التصديق بالله وهو العلم، والتصديق يوجد بالقلب، فإن قال: فما الدليل على ما قلتم؟ قيل له: إجماع أهل اللغة قاطبة على أن الإيمان قبل نزول القرآن وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم هو التصديق، لا يعرفون في اللغة إيماناً غير ذلك، ويدل على ذلك قوله: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا﴾ (سورة يوسف: 17) أي: بمصدق لنا، ومنه قولهم: فلان يؤمن بالشفاعة، وفلان لا يؤمن بعذاب العبر، أي لا يصدق بذلك، فوجب أن الإيمان في الشريعة هو الإيمان في اللغة لأن الله ما غير اللسان العربي ولا قلبه ولو فعل ذلك لتواترت الأخبار بفعله وتوفرت دواعي الأمة على نقله ولغلب إظهاره على كتمانه , وفي علمنا بأنه لم يفعل ذلك بل إقرار أسماء الأشياء والتخاطب بأسره على ما كان دليل على أن الإيمان في الشريعة هو الإيمان اللغوي ومما يدل على ذلك ويبينه قوله تعالى: ﴿وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه﴾ [إبراهيم: 4] وقوله: ﴿إنا جعلناه قرآنا عربيا﴾ [الزخرف: 3] فأخبر أنه أنزل القرآن بلغة العرب وسمى الأسماء بمسمياتهم فلا وجه للعدول بهذه الآيات عن ظواهرها بغير حجة لا سيما مع القول بالعموم وحصول التوقيف على أن القرآن نزل بلغتهم ; فدل على ما قلناه من أن الإيمان ما وصفناه دون ما سواه من سائر الطاعات من النوافل والمفروضات "( ).
وقال الجويني(ت: 403ه): أن حقيقة الإيمان التصديق بالله تعالى، فالمؤمن بالله من صدقه، والدليل على أن الإيمان هو التصديق صريح اللغة وأصل العربية، وهذا لا ينكر فيحتاج إلى إثباته، وفي التنزيل:﴿ وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين﴾ معناه وما أنت بمصدق لنا"( ).
وقال إبراهيم اللقاني(ت: 403ه) في منظومته:
وفسر الإيمان بالتصديق ... والنطق فيه الخلف بالتحقيق( ).
فخلاصة كلامهم أن الايمان: التصديق وهو العلم، مع أن تعبيراتهم تختلف أحياناً فيقولون: هو العلم ،كقول جهم ابن صفوان، وتارة يقولون: هو التصديق( ).
المطلب الثاني: الردّ على الأشاعرة:
الرد عليهم من عدة وجوه، ومنها:
1- دعوى إجماع أهل اللغة على أن الإيمان قبل نزول القرآن هو التصديق، يقال: من نقل هذا الإجماع؟ ومن أين هذا الإجماع؟ وفي أي كتاب ذكر هذا الإجماع؟، ثم يقال: أتعني بأهل اللغة نقلتها كأبي عمرو، والأصمعي، والخليل ونحوهم، أو المتكلمين بها؟ فإن عنيت الأول، فهؤلاء لا ينقلون كل ما كان قبل الإسلام بإسناد، وإنما ينقلون ما سمعوه من العرب في زمانهم، وما سمعوه في دواوين الشعر وكلام العرب وغير ذلك بالإسناد، ولا نعلم فيما نقلوه لفظ الإيمان، فضلاً عن أن يكونوا أجمعوا عليه، وإن عنيت المتكلمين بهذا اللفظ قبل الإسلام فهؤلاء لم نشهدهم ولا نقل لنا أحد عنهم ذلك.
2- أنه لا يعرف عن هؤلاء جميعهم أنهم قالوا: الإيمان في اللغة هو: التصديق، بل ولا عن بعضهم، وإن قُدِّر أنه قاله واحد أو اثنان، فليس هذا إجماعاً.
3- أنه لم يذكر شاهداً من كلام العرب على ما ادّعاه عليهم، وإنما استدل من غير القرآن بقول الناس: فلان يؤمن بالشفاعة، وفلان يؤمن بالجنة والنار، وفلان يؤمن بعذاب القبر، وفلان لا يؤمن بذلك، ومعلوم أن هذا ليس من ألفاظ العرب قبل نزول القرآن، بل هو مما تكلم الناس به بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم، لما صار من الناس أهل البدع يكذبون بالشفاعة وعذاب القبر، ومرادهم بذلك هو مرادهم بقوله: فلان مؤمن يؤمن بالجنة والنار، وفلان لا يؤمن بذلك، وإن كان تصديق القلب داخلاً في مراده، فليس مراده ذلك وحده، بل مراده التصديق بالقلب واللسان، فإن مجرد تصديق القلب بدون اللسان لا يعلم حتى يخبر به عنه( ).
وأما استدلالهم من قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا﴾ (يوسف: 17) أي بمصدق لنا، وكذلك قولهم: الإيمان هو مرادف للتصديق، فيردّ عليهم من عدة وجوه، ومنها:
أ- أن لفظ الإيمان تكرر في القرآن والحديث أكثر من غيره من الألفاظ، والإيمان أصل الدين، وكل مسلم يحتاج إلى معرفته، فلا بد أن يؤخذ معنى الإيمان من جميع موارده، لا من آية واحدة.
ب - أن الإيمان ليس مرادفاً للتصديق لعدة أسباب: ومنها:
1- أنه يقال للمخبر إذا صدق: صدقه، ولا يقال: آمنه، ولا آمن به، بل يقال: آمن له، كما قال تعالى: ﴿فآمن له لوط﴾ [العنكبوت: 26]، وقوله تعالى: ﴿فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف﴾ [يونس: 83]، وقال تعالى: ﴿يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين﴾ [التوبة: 61]، ففرق بين المعدى بالباء والمعدى باللام، فالأول يقال للمخبر به، والثاني للمخبر، ولا يرد كونه يجوز أن يقال: ما أنت بمصدق لنا؛ لأن دخول اللام لتقوية العامل، كما إذا تقدم المعمول، أو كان العامل اسم فاعل، أو مصدراً، على ما عرف في موضعه, فالحاصل أنه لا يقال: قد آمنته، ولا صدقت له، إنما يقال: آمنت له، كما يقال: أقررت له، فكان تفسيره بأقررت, أقرب من تفسيره بصدقت، مع الفرق بينهما؛ لأن الفرق بينهما ثابت في المعنى.
2- وإن كل مخبر عن مشاهد أو غيب، يقال له في اللغة: صدقت، كما يقال له: كذبت، فمن قال: السماء فوقنا، قيل له: صدقت، وأما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن الغائب، فيقال لمن قال: طلعت الشمس: صدقناه، ولا يقال: آمنا له، فإن فيه أصل معنى الأمن، والائتمان إنما يكون في الخبر عن الغائب، فالأمر الغائب هو الذي يؤتمن عليه المخبر, ولهذا لم يأت في القرآن وغيره لفظ آمن له, إلا في هذا النوع.
3- وإن لفظ الإيمان لم يقابل بالتكذيب كما يقابل لفظ التصديق، وإنما يقابل بالكفر، والكفر لا يختص بالتكذيب، بل لو قال: أنا أعلم أنك صادق ولكن لا أتبعك، بل أعاديك وأبغضك وأخالفك لكان كفرا أعظم، فعلم أن الايمان ليس التصديق فقط، ولا الكفر التكذيب فقط، بل إذا كان الكفر يكون تكذيبا، ويكون مخالفة ومعاداة بلا تكذيب, فكذلك الإيمان، يكون تصديقا وموافقةً وانقياداً، ولا يكفي مجرد التصديق، فيكون الإسلام جزء مسمى الإيمان، ولو سلّم الترادف، فالتصديق يكون بالأفعال أيضا، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "العينان تزنيان، وزناهما النظر، والأذن تزني، وزناها السمع" , إلى أن قال: " والفرج يصدق ذلك أو يكذبه( )"( ).
لوازم قولهم:
يلزم بقولهم أن فرعون وقومه كانوا مؤمنين، فإنهم عرفوا صدق موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام ولم يؤمنوا بهما، ولهذا قال موسى لفرعون: ﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾، وهو من أكبر خلق الله عناداً وبغياً، كما قال تعالى: ﴿إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين﴾ [القصص: 4] ، وكذلك اليهود الذين قال الله فيهم: ﴿الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم﴾ [البقرة: 146]، فهم يعرفون النبي صلى الله وسلم كما يعرفون أبناءهم، ولم يكونوا مؤمنين به، بل كافرين به، معادين له، وكذلك أبو طالب عندهم يكون مؤمناً فإنه قال:
ولقد علمت بأن دين محمد ... لولا الملامة أو حذار مسبَّة
من خير أديان البرية دينا ... لوجدتني سمحاً بذاك أمينا
بل إبليس يكون عندهم مؤمناً كامل الإيمان؛ فإنه لم يجهل ربه، بل هو عارف به: ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الحجر: 36] وقوله تعالى ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾ [الحجر: 39] وقوله تعالى ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص: 82] ( ).
المطلب الثالث :الإيمان عند أهل السنة والجماعة.
إن الإيمان عند أهل السنة والجماعة هو: قول وعمل، كما قال الإمام البخاري: " لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحداً منهم يختلف في أن الإيمان قول، وعمل، ويزيد وينقص" ( ).
وقال الإمام البغوي: "اتفقت الصحابة والتابعون، فمن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان، وقالوا: إن الإيمان قول، وعمل، وعقيدة" ( ).
وكذلك بين شيخ الاسلام ابن تيمية عقيدة اهل السنة والجماعة بقوله: "ومن أصول أهل السنة والجماعة: أن الدين والإيمان قول وعمل: قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح"( )(سيأتي بيانها).
وقال الإمام الآجري: "إن الإيمان هو تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح ولا يكون العبد مؤمناً، إلا أن تجتمع فيه هذه الخصال الثلاث، وقد دل على ذلك القرآن والسنة، وقول علماء المسلمين"( ) .
وأما معنى "قول وعمل" في بيان الايمان فهو كما يلي:
الأول:
قول القلب: وهو تصديقه وإيقانه, كما في قوله تعالى: ﴿والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون، لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين﴾ [الزمر: 33، 34]، وقوله تعالى: ﴿إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا﴾ [الحجرات: 15].
الثاني:
قول اللسان: وهو النطق بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والإقرار بلوازمها, قال الله: ﴿وقولوا آمنا﴾ [البقرة: 136]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله"( ).
الثالث:
عمل القلب: وهو النية والإخلاص والمحبة والانقياد والإقبال على الله عز وجل، والتوكل عليه، قال الله تعالى: ﴿ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه﴾ [الأنعام: 52]، وقال تعالى: ﴿ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن﴾ [النساء: 125].
الرابع:
عمل اللسان والجوارح: فعمل اللسان ما لا يؤدى إلا به، كتلاوة القرآن وسائر الأذكار من التسبيح، والتحميد، والتهليل والتكبير، والدعاء والاستغفار وغير ذلك, وعمل الجوارح ما لا يؤدى إلا بها مثل: القيام، والركوع، والسجود، قال الله تعالى: ﴿إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور﴾ [الرعد: 22], وقال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا، وسبحوه بكرة وأصيلا﴾ [الأحزاب: 41]( )
وقد حصر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أقوال السلف في الإيمان، فهي:
أ- قول، وعمل.
ب- قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح.
ت- قول، وعمل، ونية.
ث- قول، وعمل، واتباع السنة.
فبيّن -رحمه الله- مقصود السلف، فمن قال الإيمان: هو قول، وعمل، أراد قول القلب، واللسان، وعمل القلب والجوارح.
ومن أراد الاعتقاد، رأى أنَّ لفظ القول لا يفهم منه إلا القول الظاهر، أو خاف ذلك؛ فزاد الاعتقاد بالقلب.
ومن قال: قول، وعمل، ونية، قال: القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان، وأما العمل قد لا يُفهم منه النية، فزاد ذلك.
ومن زاد اتباع السنة، فلأن ذلك كله لا يكون محبوباً لله إلا باتباع السنة، وأولئك لم يريدوا كل القول والعمل، إنما أرادوا ما كان مشروعاً من الأقوال، والأعمال.
والذين جعلوه أربعة أقسام فسَّروا مرادهم، كما سئل سهل بن عبد الله التستري عن الإيمان ما هو؟ فقال: قول، وعمل، ونية، وسنة؛ لأن الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كفر، وإذا كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق، وإذا كان قولاً وعملاً ونية بلا سنة فهو بدعة،( )
(يتبع)