26/11/2022
العامل الاقتصادي
كما أشرنا سابقاً، فإن الهدف الرئيسي لهذه المقالة هو إظهار الأثر العميق للنظام الاجتماعي-الاقتصادي الحالي على الصحة العامة، وذلك مع التركيز بشكل خاص على الأثر المخيف للفقر، والتوتر، والظلم الاجتماعي. وعند أخذ نظرة على أهم أسباب الوفيات حول العالم-وفقاً لـ"منظمة الصحة العالمية" – فسنرى اختلافات واضحة تبعاً للمنظومات الاقتصادية، مثل حقيقة أن السرطان يعد شائعاً في المجتمعات ذات الدخل العالي، في حين تعتبر الأمراض الإسهالية أكثر شيوعاً في المجتمعات منخفضة الدخل، مما يعطينا لمحة عن مدى تأثير الأوضاع الاقتصادية على الصحة العامة.
لقد قال المهاتما غاندي ذات مرة "الفقر هو أسوأ أشكال العنف" ، وذلك في سياق حديثه عن الوفيات الناجمة عن الفقر، والتي يمكن تفاديها تقنياً، غير أن المنظومات المالية تشكل عوائق تحول دون حصول الفقراء على العناية الطبية اللازمة. وتمت لاحقاً الإشارة إلى هذه الفكرة بمصطلح "العنف البنيوي" الذي يعرفه الدكتور جيمس جيليجان على أنه "ازدياد معدلات الوفيات والإعاقات في أوساط الشرائح الاجتماعية الأكثر فقراً"؛ إذ يميّز بين العنف البنيوي والعنف السلوكي قائلاً بأن "العنف البنيوي يتميّز بآثاره الدائمة، على النقيض من العنف السلوكي الذي تقتصر أضراره على وقت حدوثه".
ومن المهم أن نلاحظ أن مصطلح "عنف" في هذا السياق ليس منحصراً في التعريف التقليدي للعنف، والذي يكون المقصود منه عادةً الأذية الجسدية التي تنجم عن الشجار بين الناس أو الإساءة إليهم جسدياً، وإنما يشمل هذا المصطلح هنا الكبت الاجتماعي الذي يتسبب بالأذية النفسية أو الجسدية (أو كلاهما) اللذين من الممكن تلافيهما، ولكن تأتي هذه الأذيات كنتيجة لسلسلة من الأسباب التي يتسم بها النظام الاجتماعي الحالي. وقد تتراوح الأمثلة على هذا الموضوع من الحالات الواضحة للغاية، ووصولاً إلى الحالات المعقدة التي يجب التعمق في سلسلة الأسباب لفهمها بشكل جيّد.
وثمة مثال "كلي" واضح على هذا الموضوع، وهو شيوع الأمراض الإسهالية في المجتمعات الفقيرة، والتي تقتل نحو 1.5 مليون طفل كل عام . واللافت هنا أن الوقاية من هذه الأمراض وعلاجها تعتبر أمراً سهلاً للغاية، إذ تنتقل العدوى عن طريق الغذاء الملوث، أو مياه الشرب، أو من شخص إلى آخر كنتيجة لقلة الاهتمام بالسلوك الصحي السليم، لذلك قلما تعاني منها دول العالم الأول، أي أن السبب الحقيقي لانتشار هذه الأمراض هو الفقر وليس الصعوبة التقنية في العثور على الوقاية أو العلاج. وهذا بدوره يقودنا إلى سؤال أعمق حول سلسلة الأسباب؛ "ما هو سبب الفقر أساساً"؟؟
وبالإمكان أخذ مثال "صغير" حول مشاكل التطور والنمو التي يعاني منها من يعيشون في ظل ضغوط أسرية أو اجتماعية. دعونا نتصور أماً تربي أطفالها لوحدها، مما يضطرها لإجهاد نفسها في العمل بهدف الحصول على دخل بالكاد يكفي لإعالة أولادها، فتؤدي هذه الضغوط إلى تراجع قدرتها على توفير الدعم والإرشاد اللازمين للأطفال، فضلاً عن احتمال إصابتها بحالة من الاكتئاب والقلق المستمرين كنتيجة للديون والدفعات المترتبة عليها، الأمر الذي يفضي في نهاية المطاف إلى نشوء بيئة أسرية يسودها الإحباط واليأس. وتسفر هذه السلسلة عن إصابة الطفل بما نسميه الخسارة العاطفية، والتي تعيق تطوره ذهنياً وعصبياً، وتجعله عرضة لميول سلبية مثل الاستعداد للإدمان على المخدرات . وبعد أن يشب هذا الطفل، ليس من المستغرب أن ينتهي به المطاف متوفياً إثر جرعة مفرطة من الهيروين. وهنا يكمن السؤال الأهم...ما الذي تسبب بالجرعة المفرطة؟ هل هو الهيروين ذاته، أم التأثير السلبي من الأم؟ أو لعله الظرف الاقتصادي الذي أعاق الوالدة عن توفير بيئة متوازنة وعناية كافية لطفلها؟
لا شك في أنه من الاستحالة أن نبلغ "المدينة الفاضلة"، إذ لا نقدر على تعديل النظام الاجتماعي –الاقتصادي بحيث يقضي على جميع الإشكاليات الكلية والجزئية ذات الطبيعة "البنيوية" دفعة واحدة . ولكن في المقابل لا شك أيضاً في أننا غدونا قادرين على معالجة وتلافي هذه المشاكل الصحية الاجتماعية بشكل كبير إن اعتزمنا تعديل منظومتنا الاجتماعية-الاقتصادية بأكثر الطرق الاستراتيجية المتاحة. وفيما نواصل التعمق في تحليلاتنا بحثاً عن الأسباب الحقيقية للأمراض الذهنية والجسدية التي يعرفها عالمنا المعاصر، نستنتج أكثر فأكثر بأن المنظومة الاجتماعية-الاقتصادية السائدة هي السبب الحقيقي الكامن وراء سلاسل أسباب هذه العلل، مما يقتضي بناء منظومة جديدة إن كنا بالفعل نرغب في تجاوز هذه المشاكل والمعيقات.
ووفقاً لكتاب "قائمة تجريبية لرصد العنف البنيوي" (An Epirical Table of Structural Violence)، الصادر عام 1976 لمؤلفيه جيرنوت كوهلر ونورمان آلكوك، فإن العنف البنيوي يتسبب بموت نحو 18 مليون إنسان سنوياً . ولا شك أن هذا الرقم قد ازداد كثيراً اليوم بسبب تضاعف الفجوة بين الفقراء والأغنياء بعد 30 عاماً من تاريخ إجراء تلك الدراسة، ومن الواضح أن العنف البنيوي أصبح يشكل القاتل الأبرز على كوكبنا. وفي الشكل البياني التالي نوضح معدلات الوفيات تبعاً للشرائح الاجتماعية لنبيّن العلاقة الوثيقة بين انخفاض الدخل ومعدلات الوفيات بشكل عام.
