فتاة حملت من القوة والجبروت ما جعلها تحرم رئيس الجمهورية، من طعم النوم والإحساس بالراحة، حينما طلب الرئيس أنور السادات، من المخابرات المصرية ضبط "فتاة المعادي" حية أو ميتة.. "الرسالة" تنشر صفحات جديدة من رواية الجاسوسة الأخطر "هبة سليم".
هبة سليم.. هي أول جاسوسة عربية استُغلت أيديولوجيًا، وعملت لصالح الموساد؛ ليس لأجل المال أو الجاه، إنما أغراها الوهم فباعت الوطن.
بكت جولدا مائير، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، حزنًا على مصير هبة التي وصفتها بأنها "قدمت لإسرائيل أكثر مما قدم زعماء و جنرالات إسرائيل"، وعندما جاء هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي، ليرجو السادات، تخفيف الحكم عليها، وكانت هبة في زنزانتها الانفرادية لا تعلم أن نهايتها قد حانت بزيارة وزير الخارجية الأمريكي.
📷جولدا مائير
قال السفير فخرى عثمان، سفير مصر فى ليبيا في ذلك الوقت، إن الرئيس أنور السادات، عندما استدعى حسن عبد الغنى ومحمد رفعت جبريل، أكفأ رجال جهاز المخابرات العامة المصرية فى ذلك الوقت، ومنحهما سلطات رئيس الجمهورية، وطلب منهما القبض على هبه سليم، حية أو ميته، لأنه لا يستطيع اتخاذ قرار الحرب.
قاد عملية القبض على هبة سليم، الضابط محمد رفعت إبراهيم عثمان جبريل، والذي عرف في أوساط المخابرات العامة المصرية بـ"لقب الثعلب"، ورصدت إسرائيل مليوني دولار لرأسه خاصة بعد نجاحه فى القبض على "باروخ مزراحي" وزرع رأفت الهجان، وكشف تعاون بعض الدول الأوروبية التى ادعت صداقتها لمصر مع إسرائيل، وقاد التحقيق معها اللواء محمد رشدي، والذي عرف منها على مدى 70 يوما كيف صعدت إلى الهاوية.
يرى البعض أن هبة سليم، ربما لم تكن ذات أهمية لو لم تقم بتجنيد الضابط إبراهيم الفقي، الذي شغل منصبا هاما مكنه من حضور اجتماعات غرفة العمليات الخاصة بحرب أكتوبر ولولا القبض عليه لعرفت إسرائيل بمعياد وخطة حرب أكتوبر.
بعد أن التحقت هبة، بقسم اللغة الفرنسية بكلية الآداب جامعة عين شمس ساعدها رئيس القسم -الفرنسى الجنسية- فى السفر إلى جامعة السوربون بفرنسا، واختلطت بشباب وفتيات يهود أوهموها بعظمة وديمقراطية إسيرائيل وحبها للسلام، وتخلف الشعوب العربية وضعفها، وهو الكلام الذى لاقى هوى فى نفس هبة التى كانت طبيعتها تميل إلى التحرر والخروج عن التقاليد العربية.
📷هبة سليم
في شقة صديقتها التقت هبة، بضابط المخابرات الإسرائيلى الذى افهمها أنه من منظمة دولية داعمة للسلام وأكد لها استحالة أن ينتصر العرب على إسرائيل، ووثقت فى كلامه وعزمت على تقديم خدماتها لإسرائيل طواعية .
بدأت هبة سليم، بالعمل لصالح الموساد الذى كان يخطط لاستخدامها فى استمالة الشاب العربى الدارس فى فرنسا، ثم طلب منها ضابط المخابرات المسئول عنها أن تدون معرفها وعندما كتبت اسم فاروق الفقى ومنصبه ومحاولته المستمرة فى إثارة إعجابها به، وجد فيه صيداً ثميناً وطلب منها أن تعمل على تجنيده ورسم لها الخطة التى ستسير عليها.
بالفعل.. عادت هبة إلى مصر فى زيارة هدفها الرئيسى البحث عن فاروق الفقى وتجنيده باستغلال حبه الشديد لها، وقد كان. وبعد خطبتهما وأمام ثقافتها وتحررها الكبيرين لم يجد ما يتباها به أمامها ويظهر أهميته سوى الحديث عما يصله يومياً من الأخبار العسكرية التى تصل إليه والتى تحمل دائماً كلمة سرى للغاية، بالإضافة إلى إحضار الخرائط وشرحها لها تفضيلياً.
على الفور بدأت فى إرسال تلك المعلومات للضابط المسئول عنها والذى كان فى قمة سعادته بفيض المعلومات الذى وصل إليه من عميلته المميزة وذليلها. وبدأوا فى توجيهها إلى إلى الأهم فى التسليح ومواقع القوات المسلحة، وبالذات قواعد الصواريخ والخطط المستقبلية لإقامتها، والمواقع التبادلية المقترحة.
سافرت هبة إلى باريس مرة ثانية تحمل بحقيبتها عدة صفحات دونت بها معلومات غاية فى السرية والأهمية للدرجة التى حيرت المخابرات الاسرائيلية. فماذا سيقدمون مكافأة للفتاة الصديقة؟، سؤال كانت إجابته عشرة آلاف فرنك فرنسى رفضتها هبة بشدة وقبلت فقط السفر الى القاهرة على نفقة الموساد بعد ثلاثة أشهر من إقامتها بباريس أيضاً على نفقة الموساد .
📷هبة سليم وفاروق الفقي
في القاهرة استطاعت السيطرة تمامًا على فاروق الفقى، وأوهمته أنها عضوة فى مؤسسة دولية حريصة على نشر السلام فى العالم وأنها تسعى لجمع المعلومات عن كافة الدول لتتمكن من التدخل فى الوقت المناسب لمنع الحروب. ليصير فى النهاية فاروق الفقى عميلاً للموساد تمكن من تسريب وثائق وخرائط عسكرية، موضحاً عليها منصات الصواريخ "سام 6" المضادة للطائرات، التى كانت القوات المسلحة تسعى ليلى نهار لنصبها لحماية مصر من غارات العمق الاسرائيلية.
عرض ضابط الموساد على "هبة" زيارة إسرائيل، وكانت فى غاية السعادة فلم تكن لتصدق أبداً أنها مهمة إلى هذه الدرجة، ووصفت هى بنفسها تلك الرحلة وقالت أن طائرتان حربيتان رافقتا طائرتها كحرس شرف وتحية لها. وهذه إجراءات لتكريم رؤساء وملوك الدول الزائرين.
في مطار تل أبيب كان ينتظر "هبة" عددًا من الضباط اصطفوا بجوار سيارة ليموزين سوداء تقف أسفل جناح الطائرة، وأدوا لها التحية العسكرية، واستقبلها بمكتبه مائير عاميت رئيس جهاز الموساد ، وأقام لها حفل استقبال ضخماً ضم نخبة من كبار ضباط الموساد على رأسهم مايك هرارى الأسطورة، وقابلت جولدا مائير لتفاجأ عند وصولها لمكتهبا صفاً من عشرة جنرالات إسرائيليين أدوا لها التحية العسكرية، وقالت لهم مائيير إن هذه الآنسة قدمت لإسرائيل خدمات أكثر مما قدمتم لها جميعاً مجتمعين.
📷الموساد - أرشيفية
لاحظت القيادة العامة للقوات المسلحة ولجهازى المخابرات العامة والحربية، أن مواقع الصواريخ الجديدة تدمر أولاً بأول بواسطة الطيران الإسرائيلى. حتى قبل أن يجف الأسمنت المسلح بها، وحدثت خسائر جسيمة فى الأرواح، وتعطيل فى تقدم العمل وإنجاز الخطة التى وضعت لإقامة حائط الصواريخ المضادة للطائرات.
يقول الضابط المسئول عن استجواب هبة سليم، إن المخابرات العامة اكتشفت خطابات تخرج من القاهرة مكتوبة بالحبر السرى وبتتبعها وجد أنها تصل إلى باريس ويتم وضعها فى صندوق بريدى أمام متجر للأنتيكات، ثم يخرج أحد العاملين من المتجر لإفراغ الصندوق من البريد، ولم تستطع فرق المراقبة الوصول لأكثر من ذلك، ولكن طبيعة المعلومات الواردة فى الخطاب والتى تندرج تحت بند سرى للغاية جعل البحث يشمل جميع من يتداول تلك المعلومات.
ويضيف الضابط، "تم تحديد 7 عناصر وضعوا تحت رقابة قوية وصارمة على حياتهم وتصرفاتهم، وكانت رقابة لصيقة وكاملة على مدار الـ 24 ساعة وتم استعباد كل من ثبتت براءته بشكل دورى وبعد أسبوع تقريباً لم يبق سوى اثنان فقط تحت مستوى الشبهات كان منهم فاروق الفقى وبمراقبتهما وجد أن الفقى حصل على إجازة لمدة يومين وذهب إلى الأسكندرية، حيث أرسل خطاباً على نفس عنوان المراسلات المرصود – دون ذكر سماء للمرسل أو المستلم- يخاطب فيه فتاة ويقول لها أنه فى إجازة وكان يتمنى وجودها معه، وهكذا حددنا الطرف المرسل وعلمنا لمن أرسلها وبدأنا فى التحرى عن هبة سليم فى الداخل والخارج".
بعد التأكد من كون هبة سليم، جاسوسة للموساد تم وضع خطة القبض عليها وهنا يظهر فى الصورة السفير ورجل المخبارات فخرى عثمان الذى عرف هبة سليم منذ أن كان يعمل بالسفارة المصرية فى باريس وكان معجباً بذكائها، حيث أخبر كل من اللواء حسن عبد الغنى ومعه رفعت جبريل - ثعلب المخابرات المصرية – أن عبد الرحمن سليم عامر، والد هبة هو نقطة ضعفها الأكبر وكان فى ذلك الوقت يشغل منصبا كبيرا فى مجال التعليم فى طرابلس بليبيا، وبالفعل وضع رفعت جبريل، خطة القبض على هبة.
ذهب كل من اللواء حسن عبد الغنى، ورفعت جبريل، لوالد هبة وعرفاه بشخصيتهما وشرحا له أن ابنته هبة التى تدرس فى باريس تورطت فى عملية اختطاف طائرة مع منظمة فلسطينية، وأن الشرطة الفرنسية على وشك القبض عليها، وما يهم هو ضرورة هروبها من فرنسا لعدم توريطها، أو الزج باسم مصر فى مثل هذه العمليات الارهابية.
وطلب الضابطان من والد هبة، أن يساعدهما بأن يطلبها للحضور لرؤيته حيث أنه مصاب بذبحة صدرية، واستعانت المخابرات بالسفير فخرى عثمان، والذى كان على معرفة شخصية بهبة سليم، ووالدها، عندما قابلها فى فرنسا، وهو الذى أعطاهما فكرة استغلال علاقتها بوالدها لإحضارها لليبيا، وقد تعاون والدها بشكل كامل ودخل المستشفى بالفعل، حيث قامت المخابرات المصرية بالتعاون مع المخابرات الليبية بالتنسيق للخطة وتنفيذها وتم حجز غرفة فى مستشفى طرابلس وإفهام الأطباء المسؤولين مهمتهم وما سيقومون به بالضبط.
أرسل والد هبة، برقية عاجلة لابنته بمرضه ورغبته فى رؤيتها وهو ما أخبرها به أيضاً السفير فخرى عثمان وأكد على ضرورة حضورها، وبالطبع رفض الضابط المسئول عنها سفرها، فجاء ردها سريعاً ببرقية تطلب منه أن يغادر طرابلس إلى باريس، حيث حجزت له فى أكبر المستشفيات هناك وأنها ستنتظره بسيارة إسعاف فى المطار، وأن جميع الترتيبات للمحافظة على صحته قد تم اتخاذها.
بعدما أرسل والد هبة، ردًا بعدم استطاعته السفر إلى باريس لصعوبة حالته، صح ما توقعه الضابطان، إذ حضر شخصان من باريس أحدهما طبيب لبنانى – كما زعم - للتأكد من صحة البرقية وخطورة المرض، وبعد تأكدهما اتصلا فى الحال بالفتاة وضابط الحالة المسئول عنها.
استقلت هبة سليم الطائرة اليتاليا – التى حجزت عليها أيضا للعودة فى نفس اليوم - من باريس إلى روما ثم إلى ليبيا لتضليل من يراقبها.
في مطار ليبيا حاول الموساد مساعدة هبة، على الخروج من الطائرة فى حماية قوات الأمن الليبية عندما أبلغت بفقد خاتمها السوليتير فى الطائرة، الأمر الذى يستدعى عمل محضر بالواقعة بعد صعود قوات الأمن على متنها، وهنا قام السفير فخرى عثمان بالصعود إلى الطائرة وطمأنتها لسابق معرفتها به ونزل معها إلى قاعة كبار الزوار بصالة الوصول فى المطار، عندها قام المدير الإقليمى لمصر للطيران بسحب طائرة مصر للطيران التى ستسقلها هبه سليم -والتى تم تأخير إقلاعها لمدة نصف ساعة- بالحبال حتى باب ق الوصول حتى تم نقلها إلى طائرة مصر للطيران التى تأخرت عن الإقلاع لمدة نصف ساعة، وقام بتخفيف الإضاءة فى المطار وتقليل حركة أتوبيسات نقل الركاب على الممرات ليتم نقل هبة إلى الطائرة دون أن يراها أحد.
كان فى انتظار هبة، عند سلم الطائرة حسن عبد الغنى، و"الثعلب" رفعت جبريل، وما أن عرفها الأخير بنفسيهما حتى أوشكت على السقوط ولكنهما حملاها إلى الطائرة.
وأودعت هبة سليم، فى المخابرات العامة، وقام اللواء محمد رشدي، باستجوابها لمدة 70 يومًا ثم حوكمت محاكمة عسكرية وحكم عليها بالإعدام شنقاً.
📷السادات وكسينجر
حاولت رئيس وزراء إسرائيل وقتها، جولدا مائير، الضغط عل مصر للإفراج عن هبة سليم بسبب ما قدمته لإسرائيل من خدمات جليلة تمثلت فى تسريب 70% من معلوما غاية فى السرية عن الحرب والتسليح وجداول دوريات فرق الاستطلاع خلف خطوط العدو والتى خسرنا منهم الكثيرين بسبب تقارير فاروق الفقى وهبة سليم للموساد، وحاول كيسينجر التدخل عند مقابلته مع السادات.
واعترف فاروق الفقي، بخيانته فور رؤيته لنائب مدير المخابرات الحربية فى مكتبه، وخلال التحقيقات أبدى ندمه الشديد على ما قام به خاصة مع معرفته بحجم الخسائر التى وقعت بسببه فى الأرواح والمعدات.
في المقابل.. قامت المخابرات العامه باستخدامه كعميل مزدوج لمدة شهرين – استناداً إلى الثقة التى يضعها الموسا فى هذا الثنائى، حيث استغلت المخابرات المعلومة التى عرفتها من هبة سليم بأن إسرائيل ترى مصر دولة ضعيفى غير قادرة على الإطلاق على خوض حرب قوية ضدها أو الانتصار عليها وقامت بتغذية تلك المعلومة طوال القوت عن طريق فاروق الفقى الذى أعدم فى النهاية رمياً بالرصاص.
أغرب ما في قصة هبة سليم، أنها لم تبد أي ندم على ما فعلته عند استجوابها، بل رأت أنها قدمت خدمة جليلة لمصر بأن قامت بحماية مصر من خوض حرب ستخسرها فى النهاية، كما ادعت