02/08/2024
#مقال
الدولة المستحيلة
منذ 12 قرنا وحتى بداية القرن التاسع عشر كان قانون الاسلام الأخلاقي والمعروف باسم الشريعة ناجحا في التفاعل مع القوانين والأعراف وغدا القوة الناظمة لشؤون الدولة والمجتمع. كان نموذجيا حتى جاء المستعمر الغربي بتعديلات اقتصادية واجتماعية وسياسية لمستعمراته وأفرغ الشريعة من مضمونها عن طريق اقتصارها بقانون الأحوال الشخصية في الدول القطرية الجديدة
فقدت بذلك الشريعة استقلالها ودورها الفاعل وأصبح وجودها اسميا لإضفاء الشرعية على الأنظمة الحاكمة، مع ذلك تبقى الشريعة حتى اليوم مصدرا للسلطة الدينية عند غالبية المسلمين بشكل غير رسمي، لذلك قامت بعض الأنظمة أو التنظيمات باستخدامها لإضفاء الشرعية على حكمها سواء كان بطرق مشوهة كنقل وقائع صلاة العيد أو بطرق مبتورة كتطبيق عقوبات انتقائية أو تغيير قشور مجتمعية متجاهلة القواعد الشرعية الاجرائية أو لب الشريعة
حاول الملالي خطف نموذج الدولة الاسلامية بعد الإعلان عن الثورة الايرانية لكنهم فشلوا بالرغم من الدعم الغربي، كما أعلنت جماعات أخرى أن الدولة المدنية تعبير عن الدولة الحديثة الاسلامية المتلائمة مع المتغيرات الجديدة والاستفادة من تجارب الأمم المتقدمة لا يتعارض مع الشريعة لأن الاسلام هو المرجعية العليا للأوطان ولا مانع من وجود قوانين طالما لاتتعارض مع ثوابت الاسلام القطعية. أي تطويع الدولة والشريعة لتلائم حاجات الناس
إن ارتباط دولة مع ثقافتها وتاريخها مهم جدا لبناء دولة، فحكم المسلمين لأنفسهم في ضوء الحضارة العظيمة التي صنعوها وعاشوها، ثم وجودهم اليوم أمام سؤال "ما هو الحكم السياسي الذي يجب أن يتبعه المسلمون؟
حافظت النخب القومية التي أنتجها الاستعمار الغربي على الهياكل التي ورثتها من المستعمر واتبعت نفس سياساته بعد "الاستقلال". لقد ورثوا من المستعمر دولة قومية حتى اللباس، مع ذلك لم تستقر الدول القومية في العالم الاسلامي
يظهر لنا جليا من النموذج الإيراني والسعودي قبله أن معظم من ينادي بتحكيم الشريعة تحول لدول قمعية سلطوية وتم لاحقا استبدال الشريعة رويدا رويدا بالدولة القومية القديمة، لذلك لا يمكن تعلم الدروس من هذه التجارب لاعتبارات فشلها سياسيا وشرعيا فالشريعة التي يعنونون بها دساتيرهم بوصفها المصدر الرئيس للتشريع ميتة مؤسسيا ومساءة الاستخدام سياسيا ولذلك إن أردنا أخذ الدعوة المعاصرة لعودة الشريعة على محمل الجد فإننا لايمكن أن ننظر الى المحاولات الأخيرة والتي لم تبتعد عن كونها خطابية مسيسة بل الى الشريعة على مدار اثنا عشر قرنا منذ بدء الاسلام حتى ظهور المستعمر فالدولة الحديثة المستمدة من أوروبا هي دولة لا تصلح إلا لأوروبا ولا يمكن أن يعاد انتاجها لتصبح اسلامية لأنها صممت بأبعاد جغرافية وقومية ومعرفية لأوروبا
يعيش الغرب براحة كبيرة فتنت الأمم لكنها بدأت تتغير في السنوات الأخيرة، بسبب صيرورة تاريخية صنعها بنفسه ووضع قواعد اللعبة بنفسه ويجبر الجميع على اتباع هذه القواعد التي ستعطيه تفضيلا في كل الأحوال.
هذه الصيرورة تشكلت في عصر التنوير والثورات الصناعية وقد حذى العالم حذوها، وتجاهل الغرب تاريخه قبل عصر التنوير بل قفز الى الدولة الرومانية واليونانية والأندلسية لاستسقاء بعض تجاربهم في السياسة ولايمكن تجاهل أن شرارة عصر التنوير بدأت بكتابات اسلامية تم اعادة صياغتها ونسبها لعلماء التنوير
جميع الدول تحاول اليوم اللحاق بركب الغرب، بتقليده حتى بالمناهج الدراسية، ففي الكتب المدرسية لجميع الدول تجد مبادئ أرسطو وافلاطون وكانط وروسو متجاهلة بشكل متعمد لكتابات ودور علماء المسلمين في هذا السياق.
يجادل البعض في أن النموذج الأوروبي أدى للقضاء على الجهل والجوع والمرض، لكن هذا التطور لم يكن سوى بسبب التطور الميكانيكي والكهربائي في العالم وهو غير مرتبط بالدولة الحديثة بل ارتبط بتحرير العلم من سلطة الدولة، لكنه ارتبط لاحقا بدمار الطبيعة والتلوث وسرقة البلدان والتدمير الممنهج للأسرة والانسان والنظم الاخلاقية اليوم، فنتاج عصر التنوير الأوروبي جعل الفرد ماديا نرجسيا أقرب لحيوان منتج
لقد استخدمت الدولة الحديثة جدلية أن التقدم التكنولوجي سيحل مشاكل البشر وهذا ما أدى لاتباع أمم العالم قاطبة للنموذج الاوروبي لكن هذا التقدم لم يربط أيضا بالدولة بل هو نتاج تحرير القطاع الخاص، ونتاج حلول لمشاكل الانتاج والتوزيع وايجاد طرق للابتكار لا علاقة لها أصلا بالدولة وفي الدولة الاسلامية لم تتدخل الشريعة بهذا المجال انما كانت تركز فقط على المعايير الأخلاقية
2/5
يحتم علينا اليوم الاعتراف أن المسلمين في العصور القديمة كانوا تابعين لنظام الشريعة بشكل عميق وشكلت الشريعة منهجا لحياتهم على عكس معظم مسلمي اليوم الذين يوجد لدى كثير منهم "ذات علمانية" تعترف بالاسلام كانتماء ديني اسمي دون أن تقبل تتبعه كمنهج حياة معتقدة أن الدولة الحديثة الأوروبية هي المنهاج الصحيح. المشكلة أن هؤلاء يعيشون ظاهرة الغش في منتجاتهم مع أن الله قد توعد المطففين بالويل وهو أدنى درجات الغش التي تراها اليوم كظاهرة منتشرة في المجتمعات الاسلامية وتغض الحكومات الطرف عنها لانشغالهم بالأمن
إن أهم ماقدمه عصر التنوير في أوروبا هو إنشاء حضارة تحت إمرة العقل البشري، والذي انفصل مؤخرا عن المبادئ الأخلاقية وحتى الانسانية ماجعل الحضارة الغربية مهددة ككل. فلا يمكن أبدا فصل العقل عن المبادئ الأخلاقية أو إعادة تعريف الأخلاق بحسب المصالح المادية. لقد وصلت الحضارة الاوروبية الى درجة المراهق المتهور الذي لايريد أن يستمع لتجارب الحكيم العجوز بحجة تخلفه
يعرف الموقف الايديولوجي على انه استبعاد مبدئي لأي زعم يناقض نظرة أخرى وبالنسبة للحداثيين ممن يريدون اللحاق بالغرب فإن دلالات التقدم الحالي للغرب سلاح خطابي للدفاع عنه مع أننا نرى اليوم انهماك الحداثة في تدمير الانسان وهذا التطرف بحد ذاته لا يختلف عن التطرف الذي يتهم به الحداثيون أعدائهم، فهم يدافعون عن كل ماهو حداثي حتى لو كان خطأ ويفترضون صحة تفسيراتهم حتى لو تعارضت مع التاريخ والأديان أو الأخلاق أو حتى لم يوجد دليل عليها بل ويجبرون الجميع على قبول هذه التفسيرات
لاتعترف الدولة الحديثة بأي مبادئ غير مبادئها وتزدري أي معيار أخلاقي لا تضعه بنفسها بل يستدل البعض على صحة دينهم من وضع هذه الدولة لمعيار أخلاقي مستقى من دينهم دون الإشارة لذلك الدين لأنه بالنسبة لهم من الماضي والماضي متخلف رغم أن المبادئ الأخلاقية لاتتغير. لذلك كان استدعاء إعادة بناء نموذج اسلامي بالنسبة لهم غير معقول
إن البناء على فكرة تكرار تجربة الحداثة الغربية والتلاقي عند المؤسسات والأنماط الثقافية الغربية هي واحدة من أوهام العصر الحديث فالنظام السياسي منفصل نوعا ما عن النظام الاقتصادي فصحيح أن الدولة تنخرط بغض النظر عن شكلها في تخطيط السياسات الاقتصادية ورأس المال والصناعة وهناك صلة بين الدولة والرأسمالية لكن لا يعني ذلك أن السياسات الاقتصادية لها علاقة مباشرة بتخلف أو تطور الدول. في التاريخ الاسلامي لعبت الدولة دائما دورا رقابيا واشرافيا وتنظيميا للاقتصاد دون أن تدخل في صلبه بل تركت للتجار والسوق وضع آلياته. وقد أثبت النموذج الاشتراكي والشيوعي فشله لكثرة تدخل الدولة في المجال المالي والاقتصادي كما أن النظام الرأسمالي نفسه يعاني اليوم من مشاكل بسبب تدخل الحكومات به.
إن أهم مكونات الدولة السيادة وللسيادة أبعاد داخلية وخارجية والخارجية تعني اعتراف الدول بسلطة كل واحدة منها ضمن حدودها حتى لو كان نظاما قمعيا فطالما أن الاعتراف بالدول هو من اختصاص الدول الاستعمارية السابقة فتقدم الدول الجديدة قرابين للاعتراف بها لكن في نفس الوقت الاعتراف بها يعني قبولها بقواعد اللعبة التي وضعتها الدول الاستعمارية وتصبح الدولة الجديدة كسفير يقدم أوراق اعتماده. ولا تهتم الدول الاستعمارية بالأنظمة الجديدة في الدول طالما أنها تحقق مصالحها الجيوسياسية والاقتصادية والآيديولوجية ولكنها حتما ستفرض أي حكومة أو نظام لايحقق ذلك
أما داخليا فإن السيادة تكون من خلال تأسيس قانون ودستور وينخرط معظمهم في إعادة استخدام قوانين ودساتير أخرى لأنظمة سابقة أو مجاورة وهذا يعني إعادة انتاج القديم ويصبح النظام الجديد عبارة عن نسخة مشوهة من نسخة مشوهة مصادرها الدول الاستعمارية
يرى العالم كلسن أن الدولة تتكون من الاقليم والشعب والسلطة والسلطة تتكون من القانون كإرادة سياسية والعنف المطلوب لإنفاذ القانون وأن البيروقراطية جوهرية وأساسية للدولة الحديثة، فجميع الثورات وتغييرات الأنظمة خلال القرنين الماضيين لم تتطرق للبيروقراطية بل إن البيروقراطية تطورت ونمت وتعقدت بسبب إضافات كل طرف عليها حتى أصبحت تقض مضاجع الشعوب. ويمكن القول أن معظم الدول الحديثة لديها تقريبا نفس البيروقراطيات وهذا الأمر لن يتغير
إن المجتمع المدني من تسجيل المواليد والوفيات الى إصدار الهويات وكل مابينهما من تعليم وتعليم عالي وصحة وضرائب هو صلب البيروقراطية وهو امتداد للقانون وامتداد لسلطة حراس مخلصين يعشقون حقيقة أنهم الوحيدون القادرون على التعامل مع البيروقراطية ويحاربون أي محاولة لتغييرها
إن تماسك أي دولة ليس مرتبطا بوجود قوانين وإنفاذها كما تفعل الدول الساذجة ولا هو مرتبط حتى بوضع قوانين أو بيروقراطية جديدة كما تفعل الآن بعض الأنظمة لكنه مرتبط أكثر بالتوغل الثقافي للدولة
3/5
إن دول العالم الثالث هي دول اسمية أسستها وأسمتها الدول الاستعمارية وتحاول حكوماتها أن تحكم مجتمعات مجزأة قائمة على وحدات قبلية أو عرقية أو دينية بقوانين مستوردة وبيروقراطية مضحكة لحد السذاجة وتعمل هذه المجتمعات بشكل مستقل عن الدولة حيث تنعدم الثقة بين الطرفين وكانت أول خطوة للغرب في مرحلة بناء الدولة الحديثة في مجتمعاتنا تدمير هذه المجتمعات وإعادة تكوينها؛ فمن خلال مدارس الدولة والتعليم الذي تضعه الدولة يتم إنشاء نخب علمية نموذجية يعاد ضخها في الدولة للحفاظ على الثقافة المطلوبة دون تغيير أو بالأحرى لحماية الدوبة الحديثة المستوردة
يعلم المضطلعون أن تطور وفصل السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية هو لب الدولة الحقيقي، فالمجالس التشريعية تضع التشريعات وتطبقها السلطة التنفيذية ويفسرها القضاء، لكن لا يوجد حتى اليوم امكانية لدى أي دولة في حل مشكلة فصل السلطات كما كان الحال في الدولة الاسلامية القديمة. حتى في الدول الأوروبية عادة ماتستولي الأحزاب القوية التي أصبحت شعبوية على المجالس التشريعية للتخذ قرارات جديدة، في حال الدول الحديثة العربية تصبح هذه المجالس مسرحا للأركوزات وشرعنة للحاكم بتنفيذ أوامره
قامت الدولة الاسلامية القديمة على أسس أخلاقية وتشريعية وسياسية واجتماعية مختلفة جذريا عن الأسس التي تقوم عليها الدولة الحديثة. ففي الاسلام الأمة هي الشعب بدلا من المجنسين والسلطة التشريعية هم كبار الفقهاء، كما أن الأمة هم أساس الدولة وليست الحكومة، فالحكومة تعزز قدرة الشخص على طاعة خالقه، لأنه مسؤول أمام الله في المحصلة النهائية مهما حاولت الحكومة أن تجعله مسؤولا أمامها. كما تعطى الأولوية للفقراء والمحرومين واليتامى، ولعب الفقهاء على مر التاريخ دور الوسيط والمحامي عن الضعفاء والمحرومين من دون تفويض رسمي من هؤلاء. لقد كان الفقهاء أسوة حسنة للشعب في الاستقامة والنزاهة والتعليم، فهم حماة الدين والأخلاق وعلماء الشريعة والقضاة وأصحاب الفتوى الملزمة للجميع من أعلى الهرم لأدناه. كان الفقيه خبيرا قانونيا ومسؤولا تجاه المجتمع وليس تجاه الحاكم ومصالحه وكانت فتاويه اجابات قانونية شرعية مجانية متوفرة للفقير والغني وكان القضاة يسألون الفقهاء في المسائل التي تشكل عليهم ومع مرور الوقت جمعت اجابات الفقهاء وصنفت وتناقلتها الأجيال من خلال الذاكرة أو في كتب الفقه، غير أن معظم الفتاوي المكتوبة لم يكتبها مفتون بل مؤلفون أضافوا لها شرحا وإسهابا ما أدى لإمكانية تعرضها للتحريف خاصة وأن معظم دور النشر خلال القرنين الماضيين كانت تتبع للمستعمر ولمراجعاته
كان القانون عبارة عن فتاوي من فقهاء من أجيال مختلفة ولعبت الفتاوي دورا في تخفيف عدد الشكاوي في المحاكم حيث كان المفتي هو المشرع والمحكمة تطبق هذه الفتاوي على الحالات التي تردها ولم يكن القاضي ليرد فتوى إلا إن كان فقيها أكثر ممن أفتاها، وكان الناس ملزمون بهذه الفتاوى بل ولديهم معرفة بالقوانين لأنها مستمدة من الشرع والذي كان يشمل منهاج حياتهم. كل هذا كان يتم دون تدخل من الحكومة وكان يسمح للمفتي أن يكون قاضيا لكن لايسمح للقاضي أن يصبح مفتيا وكان كلاهما يعملان تحت سلطة الشريعة وليس تحت سلطة الدولة
نقطة مهمة وهي أن الخصوم كانوا يقفون أمام القاضي دون تكليف ودوم مراسم ودون استخدام اصطلاحات قانونية معقدة ولم يكونوا يحتاجوا لمحامين على عكس محاكم الدولة الحديثة حيث يمكن أن يقضي القاضي بحبس الخصم إن شعر أنه لايقدم له الاحترام اللائق. لكن في المحاكم الاسلامية لم يكن هناك فجوة بين الخصم والقاضي سواء كانوا معدمين ماديا أو محرومين تعليميا
من النقاط المهمة أيضا أن المسلمين في عصر التطور الذي عاشوه سابقا كانوا يعلمون الشريعة والقانون لأنها سلوك حياتهم كما أن انتشار الفقهاء للسؤال عن الفتوى مجانا جعلت منهم أكثر معرفة بحقوقهم وواجباتهم كما لم يكن في المحاكم الاسلامية أجور لتكلفة التقاضي واسترداد الحقوق. كان ولاء القضاة للمجتمع وليس للحاكم فالشريعة والفقهاء نشئوا في وسط المجتمع وكانوا حريصين على مصالح الناس يخافون من أخطاء أحكامهم وحكامهم
كان القاضي والمفتي أعضاء في المجتمع انتموا الى طبقة العلماء الذين توارثوا العلم، وكانوا مقبولين اجتماعيا وعلى دراية شديدة بواقع الناس والعادات المحلية، وكانوا يشرفون على بناء المساجد وإشادة الطرق ومراقبة الأسواق واسترداد الحقوق وكانت المحاكم الاسلامية المكان الذي تسجل فيه عقود البيع واتفاقيات الشراكة
معظم التشريعات كانت نتاج الاجتهاد والتأويل لذلك قد تصل لأكثر من نتيجة لنفس المشكلة لكن كان المفتون ينتمون لنفس المدرسة فلا يوجد رأي فقهي واحد محتكر كما هو الحال في الدولة الحديثة، فكل مفتي يرى الفتوى بحسب ظرفها ومكانها ماجعل القانون الاسلامي مرنا وقادر على التكيف في مجتمعات مختلفة وسمح له أن يتغير مع الوقت ليناسب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والتطور
4/5
لم يكن القضاء الاسلامي مكرسا لتطبيق قانون استورد من الغرب أو من حاكم قرر فجأة فرض قانون، بل كان يهدف لحماية الشريعة والمتشارعين وتنظيم العلاقات الاجتماعية على أسس أخلاقية. لم يكن هناك داع للتلاعب بالقانون أو البحث عن ثغراته كما يفعل الآن في قضاء الدول الحديثة.
كان الحاكم يعين القاضي أو يعفيه لكن لم يكن ليتدخل بعمله منذ تعيينه حتى اعفاءه أي كان هناك فصلا حقيقيا بين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية
فالدولة في الاسلام زائلة ولاتربطها بالأمة وبالشرع روابط جوهرية أو عضوية دائمة فالحاكم مدبر منزل مستأجر يأتي بديل له أو يصعد بالقوة لإدارة المنزل أو دار الإسلام. كان من الصعب على الحكام اختراق المجتمع اداريا خاصة في الأزمنة التي حكم فيها حكام من غير مناطق، وحاول بعض الحكام إدخال التطبيق الصارم للقوانين كسجن العلماء أو السماح بالتعذيب للحصول على الاعتراف وكان فرض الضرائب والتعذيب من أكثر التشريعات التي عارضها الفقهاء ولم يقبلوا بها.
فيما يخص حكم القانون ليس لدى الحكم الاسلامي النموذجي إلا القليل جدا لتعلمه من نظيره الحديث لأن طبيعة الفصل بين السلطات أكثر دقة في تجسيد هذا الفصل وأهدافه وأكثر تفوقا قياسا بما نجده في الدولة الحديثة النموذجية الى جانب أن الفقهاء وفقههم كان منتوجا شعبيا متحابكا مع نسيج المجتمع المدني
يسعى بعض المسلمون بلهفة لبناء دولة حديثة بمبادئ اسلامية لكن هناك مشكلتين رئيسيتين الأولى هي أن الدولة الحديثة منتج أوروبي خالص، والمشكلة الثانية هي طبيعة السياسة الغربية أو منهجية إنشاء السياسة الغربية، فالسياسي الغربي غير متوائم مع أي نمط اسلامي للحكم لأنه يناقض أدنى درجات النسيج الأخلاقي الذي يجب أن يتوافر في الحكم الاسلامي فالثقافة الغربية مبنية على البراغماتية النفعية وإمكانية تغير الأعداء والأصدقاء بناء على المصالح وعلى السيطرة المادية على العالم وعلى السيطرة المعرفية، فالقانون النموذجي الحديث هو قانون وضعه الإنسان بهدف السيادة والرعب بينما التشريع الاسلامي ليس وضعيا بل هو قواعد موضوعية قائمة على مبادئ دقيقة ثابتة تعددية ومتجذرة وأخلاقية امتدت لقرون
فإن أراد المسلمون استخدام القانون الحديث فيتوجب عليهم قبول تغيير معاييرهم الأخلاقية بحسب الظروف والمصلحة وأن تنحى المبادئ الأخلاقية لمصلحة قوانين متغيرة وأن يضطروا للكذب والاحتيال للالتفاف على القانون
إن القوانين الوضعية وفتاوى علماء السلطان بالرغم من انتشارها في الأقطار الاسلامية لم تستطع تقديم تبرير للمسلم للتضحية بذاته من أجل دولة حديثة حتى ولو أقاموا له جنازة مهيبة تشجيعية
إن الدول اليوم هي دول غير أخلاقية ولايمكن أن تتحول الى دول ذات أسس أخلاقية بل ولاتسعى للدخول الى العالم الأخلاقي لكنها تستخدمه لإضفاء الشرعية على طموح السياسيين. سماها نيتشه الوحش البارد فهي تكذب في ماتقول وتسرق ماتملك
الخلاصة هو أن الدولة الحديثة هي نتاج أوروبي خالص أما الحكم الاسلامي فهو نتاج العالم الاسلامي بأكمله ونتاج خبرات الثقافة والرؤى على مر الأجيال، ولا يمكن لحاكم أن يتحكم به بل هو من يبرر وجود الحاكم. وماعاشته أوروبا من سلطة سياسية مطلقة وأحكام عشوائية ومحاكمات للحيوانات وتسلط الكنيسة وحقائق الثورة الصناعية الفاسدة وسخرة الإقطاع وكل ماأدى لضرورة الثورة في أوروبا لم يكن موجودا في بلاد المسلمين الذين عاشوا في نظام أكثر مساواة ورحمة جعل من الأديان الأخرى تتحاكم في محاكمهم
كما لم يعرف الحكم الاسلامي شيء شبيه بالأمن الذي أفرزته الأنظمة البوليسية والسجون والتعذيب ولا التجسس على حياة الانسان أو تتبع عوراته أو إجباره على الاعتراف أو الخضوع. صحيح أن بعض الدول الغربية أزالت التعذيب من قوانينها لكن الظول الحديثة التي تحذو حذوها تجد تطبيقه فكرة رائعة ومنطقية
لم يتدخل الحكم الاسلامي بالتعليم الذي بقي خاصا ولم يستخدمه للأدلجة الفكرية وكانت موضوعاته تتدرج من الشريعة للطب للفلك والرياضيات والفيزياء والكيمياء والمنطق والبلاغة والكتابة. أي أن التعليم كان مستقلا عن الدولة على عكس الدولة الحديثة التي تستخدمه للأدلجة ولفرض تفسيراتها للظواهر والنظريات
وعلى هذا فإن المشكلة الأساسية التي تواجهها كل الدول هو تداول السلطة
5/5
إن الدولة الحديثة فشلت فشلا ذريعا خارج أوروبا حيث لم تتمكن من حكم شعوب غير متجانسة، أو تستخدم العنف والارهاب لإخضاع الشعوب، وهذا إن دل على شيء دل على أجنبية الدولة ولم يتم فهم المواطنة
كما أثبت في أوروبا أيضا وهي منبع الدولة الحديثة أن الدولة الحديثة ليست ظاهرة ثابتة، فالدول الحديثة في أوروبا مرت بحروب عالمية وتطورت وتعاني من مشاكل مستمرة أهمها تتمحور حول تخليها عن الأخلاق والتعامل المزدوج مع مجنسيها وخطابات الكراهية التي نسمعها اليوم. فالازدهار الاقتصادي كان يغطي عيوب الدولة الحديثة لكن بغيابه سنرى كيف ستتفكك الدولة الحديثة أو يعاد وضعها في غرفة الانعاش.
اليوم ينادي علماء الاجتماع الغربيين كماكنتاير باستباق ذلك عن طريق تحديد التميز الأخلاقي للناس، وإيجاد بيئة سياسية للسماح للبشر للتعرف على والبحث عن أهداف لهم تكون ضمن أهداف المجتمع فالسياسة والأخلاق لا ينفصلان بحسب وصفه.
إلى أن يتم التفكير خارج صندوق الدولة الحديثة، والاعتراف بالسيادة الإلهية على عقل الإنسان وأن عقل الإنسان مهما بلغ يبقى قاصرا قصر عقل الطفل عن فهم أوامر أبيه، وأن تترجم فيها قوانين الله الى قواعد عملية وإعادة الدور للفقهاء والمفتين المتخصصين والمستقلين وأن يتم الفصل بين السلطات الثلاثة وأن تكون القوانين التشريعية والقضائية منسوجتان من نسيج أخلاقي يهدف لرقي الانسان ومنعه من الكذب والغش والجريمة وسلطة تنفيذية يقتصر عملها على وضع الارادة السياسية موضع تنفيذ، ومؤسسات تعليمية يديرها القطاع الخاص تتضمن إجابات عن معنى الحياة والهدف منها والأخلاق والقواعد الأساسية الناظمة والحقوق والواجبات الرئيسية وكيفية استخدام العقل للاستنباط والتفكير ويعيد دراسة أفكار المفكرين والعلماء المسلمين فلن نتمكن من الخروج من الأزمة، بالإضافة طبعا لباقي العلوم التطبيقية والأكاديمية وقتها سيعاد إحياء علوم الدين وسنتمكن من بناء نموذج قابل للتصدير للعالم أجمع.
وأي محاولات أخرى مبنية على نموذج الدولة الحديثة أو القومية أو حتى القبلية لن تؤدي إلا إلى إعادة إنتاج النظام القديم وتكرار فشله مرارا وتكرارا مهما كانت النوايا الأولية صادقة أو بدت كذلك.
ملخص كتاب الدولة المستحيلة للدكتور وائل الحلاق، خاص بمركز نورس للدراسات