14/11/2024
الفيلم الهندي “حياة الماعز”، المستوحى من رواية “أيام الماعز” للكاتب الهندي بينيامين، يعرض قصة إنسانية واقعية ومؤثرة لعامل هندي يُدعى نجيب محمد، يجد نفسه في مواجهة معاناة غير متوقعة في الصحراء السعودية. الفيلم لم يُعرض فقط كقصة انتقاد لنظام الكفيل في الخليج، بل استغل المخرج بليسي إيب توماس هذه القصة لتقديم حكاية عميقة عن الصراع الإنساني بين الأمل واليأس، والإيمان والشك، والبحث عن الخلاص في أقسى الظروف.
تبدأ رحلة نجيب من ولاية كيرلا الهندية، حيث يترك وراءه عائلته وجنته الشخصية، التي يشبّهها الفيلم بالأرض الطيبة والسعادة البسيطة، ليذهب إلى السعودية بحثاً عن الرزق وفرص الحياة الأفضل. لكن سرعان ما تتحول أحلامه إلى كابوس، إذ يجد نفسه محتجزاً في مزرعة صحراوية، بعيداً عن بيئة العمل التي وُعد بها، تحت سلطة كفيل بدوي قاسٍ. هذا الأخير يسلبه جواز سفره ويحرمه من أبسط ضروريات الحياة، مما يجعل نجيب محكوماً بأسر الصحراء وتقاليد النظام القائم.
يمثل نجيب في الفيلم الإنسان التائه في رحلة الحياة، حيث يُجسد مروره من مكان إلى آخر في الصحراء بحثاً عن النجاة، انحدار الإنسان في دروب البحث عن معنى وأمل في مواجهة القسوة. ورغم فقدان الأمل في معظم المشاهد، يتشبث نجيب بأمل غامض يساعده على الاستمرار، حتى في أحلك لحظاته. تتجلى هذه الرغبة العميقة في مشهد يتحدث فيه نجيب إلى الماعز، يطلب منها أن تطيعه حتى لا يتعرض للضرب، فيتجاوب القطيع معه، كأن الطبيعة هي الوحيدة القادرة على منحه بعض السلام.
ومن خلال تقنية “الفلاش باك”، يعيد الفيلم المشاهدين إلى لحظات في حياة نجيب في الهند، ليظهر التناقض الشاسع بين تلك الجنة البسيطة التي تركها وبين الجحيم الذي يعيش فيه الآن. في هذا السياق، يتم تسليط الضوء على العلاقة الإنسانية الحميمة بين نجيب وزوجته ساينو، وعلى حلمهما البسيط في تكوين عائلة. هذه الذكريات تبرز جمال الحياة التي ضحى بها نجيب بحثاً عن الرزق، وتضفي على رحلته في الصحراء عمقاً إضافياً يعكس الصراع الداخلي بين ما كان وما هو عليه الآن.
تأتي نقطة تحول درامية عندما يرى نجيب انعكاس صورته في مرآة سيارة تجلب المياه، ليجد أن شكله قد تحول، حيث أصبح أكثر بدائية، أشبه بالكائن الأول، كأنه فقد إنسانيته. في هذه اللحظة يتسلل الشك إلى قلب نجيب حول إيمانه وعلاقته بالله، حيث يتساءل بمرارة: “لماذا يحدث لي هذا؟ لماذا أدعو الله إن كان لا يجيب؟” هذا التساؤل يأخذ طابعاً وجودياً في الفيلم، ويعكس رحلة الإنسان المعاصر الذي يصارع لإيجاد معنى في عالم مليء بالمعاناة.
ومن ثم تأتي لحظة مفصلية عندما يظهر له طير جارح، كأنما يرمز إلى إشارة تنبيهه من الانتحار، ليتراجع عن قفزته من حافة الجبل، ويرى جثة عامل آخر ميت في الصحراء، مما يثير في نفسه شعوراً جديداً بالتمسك بالحياة، حتى ولو في هذا الجحيم.
تتصاعد أحداث الفيلم حينما يعثر نجيب على صديقه حكيم، الذي جاء معه من الهند، ويعمل في مزرعة مجاورة، وقد تغير شكله كذلك ليبدو بدائياً مثل نجيب. هذا اللقاء يحمل في طياته لحظات من العاطفة والألم، حيث يتبادلان الحديث حول مرور الزمن ويبحثان عن إجابة لسؤال الحياة: “كم من الوقت مر علينا؟” لكن كلاهما يعجز عن الإجابة، إذ يتلاعب الزمن بالإنسان في رحلة المعاناة الأرضية.
تأتي خطتهم للهروب بمساعدة عامل أفريقي يدعى إبراهيم قادري، الذي يمثل شخصية روحانية، تبدو كأنها أُرسلت لإرشادهم إلى الطريق، في استعارة واضحة لشخصية النبي موسى. قادري هو الشخصية التي تقودهم عبر الصحراء، يطلب منهم التخلي عن متاع الدنيا، ويحثهم على الإيمان بالله والتخلي عن الشك. لكن الرحلة صعبة، ومع مرور الوقت تتلاشى قوتهم، وينهار حكيم بسبب العطش، مشككاً في قادري ومعتبراً إياه مضللاً، ليكون سقوطه رمزاً لهلاك من يسعى لإدراك الحكمة الكاملة دون صبر.
وفي لحظة فارقة، يجد نجيب وأخوه الروحي قادري الماء، بفضل إشارة بسيطة من الطبيعة، رمزاً للنعمة الإلهية التي تفتح لهما طريق النجاة. وحينما يستيقظ نجيب من نومه يجد قادري قد اختفى، تاركاً خلفه أثراً يلهمه الطريق، كرسالة من رسائل الحياة التي تترك آثاراً يتبعها الإنسان.
يختتم الفيلم بلقاء نجيب مع رجل سعودي آخر يظهر تعاطفه وإنسانيته، مما يكشف عن تعدد الشخصيات داخل المجتمع وعدم تعميم الشر على الجميع. يُنقل نجيب إلى المدينة، حيث يظهر المسجد في المشهد الأخير، مما يعيدنا إلى معنى الأمل والإيمان، إذ ينتهي الأمر بنجيب أمام صوت الأذان في لحظة تعبيرية عن العودة إلى الله بعد رحلة شاقة من الاختبار.
في النهاية، يقدم “حياة الماعز” رؤية تتجاوز الخلافات السياسية أو الهجومات الانتقادية، إذ يعرض بأسلوب فني وفلسفي عميق رحلة الإنسان في البحث عن المعنى، عن النجاة، وعن التوازن بين الألم والأمل. الفيلم ليس نقداً مباشراً أو إساءة، بل هو تصوير لحالة إنسانية تمثل معاناة العامل المهاجر في أي مكان، وتسلط الضوء على معنى التضحية والإيمان والصبر، مما يعكس حاجة المشاهدين إلى تجاوز السطحية وتبني نظرة متعمقة لفهم جوانب العمل السينمائي.