16/09/2024
وداعا إلياس خوري. ووداعي فيه هو للمثقف الذي لم يهادن في كتابته أية سلطة. للمثقف الذي بقي وفياً للكلمة الحرة والنقية، وما أتذكره منه يوم رأيته في نيويورك في انتخابات نادي القلم وقد جادل ذلك الوقت ديفيد غروسمان على كلمتين وردتا في البيان الختامي، لا أقول جادل، بل قاتل من أجل تغييرها حتى بدا البيان عادلا ونقيا من أية انحيازات مسبقة. في رواياته وشخصه ثمة خلاف بيّن لكل من عرفه شخصياً أو قرأ كتبه قراءة معمقة. شخصيته-بالنسبة لي- لا تطاق- على الأقل في أول معرفتي به، وجدته صاخباً قليل التهذيب وعدوانياً. لم نتفق هو وأنا كلما التقينا باستثناء لقائي به وهو الأخير في تونس، في مؤتمر الرواية، فقد قضينا وقتاً ممتعاً معاً خارج المؤتمر، نبحث عن مطعم لا يقدم في أطباقه توابل حارة، للمرة الأولى التي شعرت به هادئاً ومستمعاً جيداً. ولا أنسى في بيروت صراخه بي حينما تكلمت عن جبرا إبراهيم جبرا: " جبرا عراقي أكثر منك!"، أو خلافنا في باريس في معرض الكتاب العربي المترجم للفرنسية في تقييمنا لتجربة محمد شكري، وقد بدأت في مقابلة تلفزيونية في فرانس٢٤ وبعد المقابلة انتهينا الى خلاف وقطيعة. أما في تجربته الروائية فقد قرأت تقريبا كل ما كتبه، لكن في تقييمي الأول له لم يكن إيجابيا مطلقا ولا سيما في روايته "أبواب المدينة" التي صدرت في العام ١٩٨١، و"عن علاقات الدائرة" التي صدرت في العام ١٩٨٥، و"الجبل الصغير" التي صدرت في العام ١٩٨٩، و"عكا والرحيل" ١٩٩٠، أعمال تجريبية لم تقدم لي أية تجربة، يشوبها التأثر بأعمال أميركا اللاتينية من دون أصالة. بدأ التحول في أعماله مع "الوجوه البيضاء" بدأ إلياس خوري روايته بالحديث عن جريمة قتل مروّعة لرجل في الخمسين من عمره يسمّى (خليل أحمد جابر)، ويكتب عنها أكثر من ثلاثمئة صفحة لا نتوصل فيها إلى القاتل، لكن الرواية تنقب عميقا في المجتمع اللبناني وتشدّ قارئها من بدايتها إلى نهايتها لاكتشاف مرتكب الجريمة. أما "رحلة غاندي الصغير" التي تعتمد الجملة القصيرة التي تنتهي بنقطة- إعجاب واضح بأسلوب همنغواي- عن عبد الكريم المغايري الذي يلقب بغاندي الصغير فهي رائعة باستكشاف أهوال الحرب الأهلية اللبنانية، وطبيعة المجتمع اللبناني وفيها قراءة هائلة لنفسية الشخصيات. ثم اختتم هذه المرحلة برائعته "رائحة الصابون" تدور أحداث الرواية عن مجتمع الحرب الأهلية اللبنانية أيضاً، يرويها البطل “عادل” الذي يجلس في صالة سينمائية، يشاهد فيلماً، وتتدفق ذكرياته وأحلامه وأوهامه. تنتقل الرواية بين زمنين: زمن الحاضر الذي يعيشه عادل في الصالة، وزمن الماضي الذي يرويه عبر ذكرياته المتداخلة. عودة لأعماله الأولى لكن بأصالة أكبر، شيء من تيار الوعي ولكن باحتراف وتمكن من الأساليب السردية. أقول افضل ما كتب الياس خوري هي رواية بالو التي صدرت في العام ٢٠١٢ يسرد خوري من منظور يالو حكاية لبناني سرياني يروي طفولته وذهابه إلى المدرسة، وانضمامه إلى المليشيات المسيحية، وهروبه إلى فرنسا، وعودته إلى لبنان، ما هو مهم كيف يرى يالو هذه الاحداث، فهو لديه فهم خاطئ للواقع، من هنا أهمية الرواية، شخص قتل واغتصب وسرق في الحرب الأهلية ويعيش على تبريرات غير منطقية لكنها مقنعة بالنسبة له. الرواية الأخرى هي كأنها نائمة التي صدرت في العام ٢٠١٣، وتدور أحداث الرواية حول فتاة مسيحية لبنانية، تدعى ميليا شاهين، تتحدى ميليا سلطة عائلتها المتدينة وتتزوج في منتصف أربعينيات القرن الماضي من رجل فلسطيني من يافا قبل أن تنتقل للعيش معه في الناصرة، قبل حدوث النكبة الفلسطينية بقليل. وإن بدت ميليا غير مهتمة بما يجري في الواقع السياسي، إلا أنها تشعر بأعماقها بخطورة المرحلة وتحولاتها العميقة، وتخالطها نتيجة تربيتها الدينية المتزمتة أحاسيس جارفة بأن الجنين الذي تحمله بأحشائها سوف يقتل وأن مقتله سيكون قربانا وأضحية لتلك التحولات.
في رحيله سيخلف فراغاً يتعذر ملأه، في زمن قل وجود مثقف حقيقي مثله.