27/01/2025
"إشكالية المبادرات الفردية في إعلان حكومات المنفى: قراءة في تجربة حكومة قبري بهدوراي في المنفي
في ظل تعقيدات المشهد السياسي الارتري واستمرار النظام الديكتاتوري في إحكام قبضته القمعية التي تستنزف موارد الشعب وتقضي على آمال التغيير تبرز فكرة حكومة المنفى كخيار سياسي يحمل في طياته أبعاداً استراتيجية ذات طابع رمزي وعملي.
خطوة تتطلب قراءة دقيقة للواقع واستشرافاً واعياً للمستقبل حيث تكمن فيها إمكانات لإعادة صياغة المشهد السياسي الوطني إذا ما أُديرت بحنكة ووضعت ضمن إطار استراتيجي شامل. ومع ذلك فإن المضي نحو هذا الخيار يواجه جملة من التحديات السياسية والقانونية والدستورية التي تستوجب معالجة دقيقة لتفادي الإخفاقات التي أحبطت المحاولات السابقة ولتحقيق هدف استعادة الوطن من براثن الاستبداد.
أهمية حكومة المنفى والتحديات الجوهرية:
الحاجة لتشكيل حكومة منفى تنبع من ضرورة ملحّة لتوحيد صفوف المعارضة وخلق مركز سياسي يجسّد إرادة التغيير ويوجه رسائل قوية إلى الداخل والخارج بأن هناك بديلاً سياسياً يمكن الوثوق به.
ولكن هذه الضرورة تصطدم بتحديات جوهرية أبرزها الخوف من أن تصبح الحكومة المقترحة سبباً اضافياً جديداً لتفاقم الخلافات السياسية بين قوى المعارضة أو أن تُستخدم كذريعة إضافية لتبرير استمرار النظام القمعي وهو ما يتطلب من المعارضة الإرترية مقاربة حذرة ومبنية على توافق وطني شامل.
تشكيل حكومة في المنفى لا يقتصر على إعلان سياسي رمزي كما هو حاصل لحكومة "قبري بهدوراي" التي أُعلن عنها في وقت سابق بل يتطلب مراعاة محددات دستورية وسياسية معقدة. أولى هذه المحددات هو فهم السياق السياسي والأمني للوضع الداخلي في إرتريا حيث يشكل غياب الدستور والإطار التشريعي أزمة كبيرة تقوض أي محاولة لتأسيس سلطة انتقالية. في هذا السياق تصبح الأولوية لتحديد الإطار السياسي والقانوني الذي يحكم تشكيل الحكومة أمر ضروري ومهم مع دراسة الخيارات المتاحة ومعرفة مدى قابليتها للتطبيق على أرض الواقع دون الوقوع في فخ الطوباوية السياسية أو الأفكار المثالية التي تكون مجرد نظريات تفتقر إلى التطبيق العملي.
مبادرات فردية وإشكاليات الشرعية:
لم تكن مبادرة "قبري بهدوراي" الذي أعلن نفسه رئيسًا للحكومة الإرترية في المنفى هي الأولى من نوعها فقد سبقتها مبادرات عديدة منها إعلان البروفيسور برخت هبت سلاسي الذي حاول أن يقدم نفسه كبديل للنظام مستندًا إلى خبرته في صياغة دستور البلاد إلا أن مشروعه لم ينجح بسبب غياب الدعم السياسي والتنظيم المؤسسي. كذلك جاءت مبادرة تلابايرو وجوهر قاضي لكنها افتقرت أيضًا إلى التوافق مع القوى السياسية الأخرى، مما أدى إلى تلاشيها بسرعة.
مبادرة يونس عبده لم تكن أفضل حالًا حيث ظلت مجرد فكرة فردية دون أن تتحول إلى حركة سياسية منظمة. حتى إعلان عبد الكريم عمر ناصر، ابن الشهيد عمر ناصر، عن حكومة انتقالية من لندن لم يجد طريقه إلى النجاح إذ لم يحظَ بالدعم الشعبي أو السياسي الكافي ليؤسس لمرحلة انتقالية حقيقية.
ما يميز هذه المحاولات جميعها بما فيها مبادرة قبري بهدوراي الأخيرة أنها تفتقر إلى الشرعية المؤسسية وتقوم على جهود فردية منعزلة عن السياق السياسي العام.
رئيس حكومة المنفي قبري بهدوراي ومجموعته لا ينتمون إلى أي حزب سياسي معروف ولم يتعاونوا مع تجمعات المعارضة الإرترية التقليدية التي تمثل القوى السياسية المختلفة. بالإضافة إلى ذلك فإن خلفيات بعض الشخصيات المرتبطة بمبادرة حكومة بهدوراي تُثير الشكوك حولهم حيث أطلق البعض منهم في السابق تصريحات تتناقض مع فكرة الكيان الإرتري كدولة مستقلة وارتبط آخرون بعلاقات مشبوهة مع أطراف إثيوبية تسعى إلى استخدام القوة العسكرية لإسقاط النظام القائم. هذه الارتباطات تضعف مصداقية المبادرات وتفتح المجال للتساؤل حول أهدافها الحقيقية ومدى قدرتها على تحقيق طموحات الشعب الإرتري في الحرية والديمقراطية.
التوافق الوطني والشرعية المؤسسية:
التوافق الوطني يُعد الركيزة الأساسية التي يجب أن تُبنى عليها أي حكومة في المنفى. هذا التوافق ليس مجرد وثيقة تُوقّع عليها الأطراف السياسية بل هو عملية معقدة تتطلب تفاهماً حول القضايا الانتقالية الأساسية ورؤية موحدة تُجسد طموحات الشعب الإرتري. يجب أن يشمل هذا التوافق وضع تصور واضح لإدارة المرحلة الانتقالية بما في ذلك تشكيل الحكم ومؤسسات الدولة وآليات الرقابة على الأداء الحكومي. وبدون هذا التوافق فإن أي حكومة منفى ستفتقر إلى الشرعية وستواجه صعوبات في الحصول على الدعم الشعبي والدولي.
محددات النجاح القانونية والسياسية:
من الناحية القانونية يتطلب إعلان حكومة في المنفى استناداً إلى مرجعية قانونية واضحة تُحدد آليات التكوين وصلاحيات الحكومة ومداها الزمني كما يجب أن تُحدد السلطة التي تملك الحق في تشكيل الحكومة والجهة المسؤولة عن مراقبة أدائها بما يضمن التوازن بين سلطات الحكومة ومسؤولياتها ويُضفي عليها شرعية تُعزز من قدرتها على العمل السياسي والدبلوماسي. هذه العناصر القانونية ليست ترفًا بل ضرورة لضمان قبول الحكومة دولياً وتحقيق أهدافها على المدى البعيد.
الدروس المستفادة وآفاق المستقبل:
كل التجارب السابقة وتجربة حكومة قبري بهدوراي الحالية تكشف عن غياب هذه المحددات الأساسية. فقد افتقرت حكومة "قبري بهدوراي" إلى التوافق الوطني والإطار القانوني الذي يمنحها الشرعية مما يجعلها مجرد محاولة رمزية عجزت عن تحقيق أي تأثير فعلي. إضافة إلى ذلك لم تنجح في تقديم رؤية استراتيجية تُعبر عن آمال الشعب الإرتري وبقيت معزولة عن القوى الفاعلة داخل وخارج المعارضة مما أضعف مصداقيتها وفعاليتها.
ومع ذلك لا يمكن إنكار أن فكرة حكومة المنفى تظل خياراً سياسياً ممكناً إذا ما أُحسن التخطيط لها. نجاح هذه الفكرة يتطلب تجاوز الأخطاء السابقة والتركيز على بناء مشروع سياسي متكامل يُراعي تعقيدات الواقع الإرتري كما يجب أن تكون الحكومة المقترحة جزءًا من استراتيجية شاملة تهدف إلى تعزيز وحدة المعارضة واستقطاب الدعم الشعبي والدولي وتوظيفها كأداة ضغط سياسي على النظام الديكتاتوري.
خاتمة:
تناول مسألة حكومات المنفى في السياق الإرتري يتجاوز كونه مجرد نقاش نظري أو مبادرات فردية ليصبح تعبيراً عن ضرورة سياسية ووطنية لمواجهة نظام استبدادي استنزف موارد البلاد وسحق تطلعات شعبه. فالحاجة إلى بديل سياسي شرعي ومنظم لا تُعد ترفاً فكرياً بل هي استحقاق تاريخي يتطلب استنهاض طاقات الشعب الإرتري في الداخل والخارج وتوحيد جهوده لمجابهة التحديات الراهنة.
مستقبل إرتريا يعتمد على إحداث تحول جذري ينبثق من رؤية سياسية متماسكة وقيادة رشيدة قادرة على تفكيك تراكمات عقود من القمع والاستبداد. ويتطلب هذا التحول تحقيق توافق وطني شامل يمهد الطريق لبناء مشروع سياسي متكامل يستند إلى أسس العدالة والديمقراطية وقادر على استقطاب الدعم الشعبي والدولي ليصبح أداة فعّالة للتغيير.
وفي ظل نظام أهدر إمكانات الوطن وقمع طاقات أبنائه تبقى وحدة الصف والعمل المشترك حجر الزاوية لاستعادة الدولة وبناء مؤسساتها على أسس القانون والعدالة. إرتريا بحاجة إلى قيادة مسؤولة تعبر عن نضال شعبها وطموحاته قيادة تضع مصلحة الوطن فوق كل الحسابات الضيقة وتسعى بوعي واستراتيجية إلى استعادة الكرامة الإرترية ومكانة البلاد على الساحة الإقليمية والدولية.
ابراهيم قارو
26.01.2025"إشكالية المبادرات الفردية في إعلان حكومات المنفى: قراءة في تجربة حكومة قبري بهدوراي في المنفي
في ظل تعقيدات المشهد السياسي الارتري واستمرار النظام الديكتاتوري في إحكام قبضته القمعية التي تستنزف موارد الشعب وتقضي على آمال التغيير تبرز فكرة حكومة المنفى كخيار سياسي يحمل في طياته أبعاداً استراتيجية ذات طابع رمزي وعملي.
خطوة تتطلب قراءة دقيقة للواقع واستشرافاً واعياً للمستقبل حيث تكمن فيها إمكانات لإعادة صياغة المشهد السياسي الوطني إذا ما أُديرت بحنكة ووضعت ضمن إطار استراتيجي شامل. ومع ذلك فإن المضي نحو هذا الخيار يواجه جملة من التحديات السياسية والقانونية والدستورية التي تستوجب معالجة دقيقة لتفادي الإخفاقات التي أحبطت المحاولات السابقة ولتحقيق هدف استعادة الوطن من براثن الاستبداد.
أهمية حكومة المنفى والتحديات الجوهرية:
الحاجة لتشكيل حكومة منفى تنبع من ضرورة ملحّة لتوحيد صفوف المعارضة وخلق مركز سياسي يجسّد إرادة التغيير ويوجه رسائل قوية إلى الداخل والخارج بأن هناك بديلاً سياسياً يمكن الوثوق به.
ولكن هذه الضرورة تصطدم بتحديات جوهرية أبرزها الخوف من أن تصبح الحكومة المقترحة سبباً اضافياً جديداً لتفاقم الخلافات السياسية بين قوى المعارضة أو أن تُستخدم كذريعة إضافية لتبرير استمرار النظام القمعي وهو ما يتطلب من المعارضة الإرترية مقاربة حذرة ومبنية على توافق وطني شامل.
تشكيل حكومة في المنفى لا يقتصر على إعلان سياسي رمزي كما هو حاصل لحكومة "قبري بهدوراي" التي أُعلن عنها في وقت سابق بل يتطلب مراعاة محددات دستورية وسياسية معقدة. أولى هذه المحددات هو فهم السياق السياسي والأمني للوضع الداخلي في إرتريا حيث يشكل غياب الدستور والإطار التشريعي أزمة كبيرة تقوض أي محاولة لتأسيس سلطة انتقالية. في هذا السياق تصبح الأولوية لتحديد الإطار السياسي والقانوني الذي يحكم تشكيل الحكومة أمر ضروري ومهم مع دراسة الخيارات المتاحة ومعرفة مدى قابليتها للتطبيق على أرض الواقع دون الوقوع في فخ الطوباوية السياسية أو الأفكار المثالية التي تكون مجرد نظريات تفتقر إلى التطبيق العملي.
مبادرات فردية وإشكاليات الشرعية:
لم تكن مبادرة "قبري بهدوراي" الذي أعلن نفسه رئيسًا للحكومة الإرترية في المنفى هي الأولى من نوعها فقد سبقتها مبادرات عديدة منها إعلان البروفيسور برخت هبت سلاسي الذي حاول أن يقدم نفسه كبديل للنظام مستندًا إلى خبرته في صياغة دستور البلاد إلا أن مشروعه لم ينجح بسبب غياب الدعم السياسي والتنظيم المؤسسي. كذلك جاءت مبادرة تلابايرو وجوهر قاضي لكنها افتقرت أيضًا إلى التوافق مع القوى السياسية الأخرى، مما أدى إلى تلاشيها بسرعة.
مبادرة يونس عبده لم تكن أفضل حالًا حيث ظلت مجرد فكرة فردية دون أن تتحول إلى حركة سياسية منظمة. حتى إعلان عبد الكريم عمر ناصر، ابن الشهيد عمر ناصر، عن حكومة انتقالية من لندن لم يجد طريقه إلى النجاح إذ لم يحظَ بالدعم الشعبي أو السياسي الكافي ليؤسس لمرحلة انتقالية حقيقية.
ما يميز هذه المحاولات جميعها بما فيها مبادرة قبري بهدوراي الأخيرة أنها تفتقر إلى الشرعية المؤسسية وتقوم على جهود فردية منعزلة عن السياق السياسي العام.
رئيس حكومة المنفي قبري بهدوراي ومجموعته لا ينتمون إلى أي حزب سياسي معروف ولم يتعاونوا مع تجمعات المعارضة الإرترية التقليدية التي تمثل القوى السياسية المختلفة. بالإضافة إلى ذلك فإن خلفيات بعض الشخصيات المرتبطة بمبادرة حكومة بهدوراي تُثير الشكوك حولهم حيث أطلق البعض منهم في السابق تصريحات تتناقض مع فكرة الكيان الإرتري كدولة مستقلة وارتبط آخرون بعلاقات مشبوهة مع أطراف إثيوبية تسعى إلى استخدام القوة العسكرية لإسقاط النظام القائم. هذه الارتباطات تضعف مصداقية المبادرات وتفتح المجال للتساؤل حول أهدافها الحقيقية ومدى قدرتها على تحقيق طموحات الشعب الإرتري في الحرية والديمقراطية.
التوافق الوطني والشرعية المؤسسية:
التوافق الوطني يُعد الركيزة الأساسية التي يجب أن تُبنى عليها أي حكومة في المنفى. هذا التوافق ليس مجرد وثيقة تُوقّع عليها الأطراف السياسية بل هو عملية معقدة تتطلب تفاهماً حول القضايا الانتقالية الأساسية ورؤية موحدة تُجسد طموحات الشعب الإرتري. يجب أن يشمل هذا التوافق وضع تصور واضح لإدارة المرحلة الانتقالية بما في ذلك تشكيل الحكم ومؤسسات الدولة وآليات الرقابة على الأداء الحكومي. وبدون هذا التوافق فإن أي حكومة منفى ستفتقر إلى الشرعية وستواجه صعوبات في الحصول على الدعم الشعبي والدولي.
محددات النجاح القانونية والسياسية:
من الناحية القانونية يتطلب إعلان حكومة في المنفى استناداً إلى مرجعية قانونية واضحة تُحدد آليات التكوين وصلاحيات الحكومة ومداها الزمني كما يجب أن تُحدد السلطة التي تملك الحق في تشكيل الحكومة والجهة المسؤولة عن مراقبة أدائها بما يضمن التوازن بين سلطات الحكومة ومسؤولياتها ويُضفي عليها شرعية تُعزز من قدرتها على العمل السياسي والدبلوماسي. هذه العناصر القانونية ليست ترفًا بل ضرورة لضمان قبول الحكومة دولياً وتحقيق أهدافها على المدى البعيد.
الدروس المستفادة وآفاق المستقبل:
كل التجارب السابقة وتجربة حكومة قبري بهدوراي الحالية تكشف عن غياب هذه المحددات الأساسية. فقد افتقرت حكومة "قبري بهدوراي" إلى التوافق الوطني والإطار القانوني الذي يمنحها الشرعية مما يجعلها مجرد محاولة رمزية عجزت عن تحقيق أي تأثير فعلي. إضافة إلى ذلك لم تنجح في تقديم رؤية استراتيجية تُعبر عن آمال الشعب الإرتري وبقيت معزولة عن القوى الفاعلة داخل وخارج المعارضة مما أضعف مصداقيتها وفعاليتها.
ومع ذلك لا يمكن إنكار أن فكرة حكومة المنفى تظل خياراً سياسياً ممكناً إذا ما أُحسن التخطيط لها. نجاح هذه الفكرة يتطلب تجاوز الأخطاء السابقة والتركيز على بناء مشروع سياسي متكامل يُراعي تعقيدات الواقع الإرتري كما يجب أن تكون الحكومة المقترحة جزءًا من استراتيجية شاملة تهدف إلى تعزيز وحدة المعارضة واستقطاب الدعم الشعبي والدولي وتوظيفها كأداة ضغط سياسي على النظام الديكتاتوري.
خاتمة:
تناول مسألة حكومات المنفى في السياق الإرتري يتجاوز كونه مجرد نقاش نظري أو مبادرات فردية ليصبح تعبيراً عن ضرورة سياسية ووطنية لمواجهة نظام استبدادي استنزف موارد البلاد وسحق تطلعات شعبه. فالحاجة إلى بديل سياسي شرعي ومنظم لا تُعد ترفاً فكرياً بل هي استحقاق تاريخي يتطلب استنهاض طاقات الشعب الإرتري في الداخل والخارج وتوحيد جهوده لمجابهة التحديات الراهنة.
مستقبل إرتريا يعتمد على إحداث تحول جذري ينبثق من رؤية سياسية متماسكة وقيادة رشيدة قادرة على تفكيك تراكمات عقود من القمع والاستبداد. ويتطلب هذا التحول تحقيق توافق وطني شامل يمهد الطريق لبناء مشروع سياسي متكامل يستند إلى أسس العدالة والديمقراطية وقادر على استقطاب الدعم الشعبي والدولي ليصبح أداة فعّالة للتغيير.
وفي ظل نظام أهدر إمكانات الوطن وقمع طاقات أبنائه تبقى وحدة الصف والعمل المشترك حجر الزاوية لاستعادة الدولة وبناء مؤسساتها على أسس القانون والعدالة. إرتريا بحاجة إلى قيادة مسؤولة تعبر عن نضال شعبها وطموحاته قيادة تضع مصلحة الوطن فوق كل الحسابات الضيقة وتسعى بوعي واستراتيجية إلى استعادة الكرامة الإرترية ومكانة البلاد على الساحة الإقليمية والدولية.
ابراهيم قارو
26.01.2025"إشكالية المبادرات الفردية في إعلان حكومات المنفى: قراءة في تجربة حكومة قبري بهدوراي في المنفي
في ظل تعقيدات المشهد السياسي الارتري واستمرار النظام الديكتاتوري في إحكام قبضته القمعية التي تستنزف موارد الشعب وتقضي على آمال التغيير تبرز فكرة حكومة المنفى كخيار سياسي يحمل في طياته أبعاداً استراتيجية ذات طابع رمزي وعملي.
خطوة تتطلب قراءة دقيقة للواقع واستشرافاً واعياً للمستقبل حيث تكمن فيها إمكانات لإعادة صياغة المشهد السياسي الوطني إذا ما أُديرت بحنكة ووضعت ضمن إطار استراتيجي شامل. ومع ذلك فإن المضي نحو هذا الخيار يواجه جملة من التحديات السياسية والقانونية والدستورية التي تستوجب معالجة دقيقة لتفادي الإخفاقات التي أحبطت المحاولات السابقة ولتحقيق هدف استعادة الوطن من براثن الاستبداد.
أهمية حكومة المنفى والتحديات الجوهرية:
الحاجة لتشكيل حكومة منفى تنبع من ضرورة ملحّة لتوحيد صفوف المعارضة وخلق مركز سياسي يجسّد إرادة التغيير ويوجه رسائل قوية إلى الداخل والخارج بأن هناك بديلاً سياسياً يمكن الوثوق به.
ولكن هذه الضرورة تصطدم بتحديات جوهرية أبرزها الخوف من أن تصبح الحكومة المقترحة سبباً اضافياً جديداً لتفاقم الخلافات السياسية بين قوى المعارضة أو أن تُستخدم كذريعة إضافية لتبرير استمرار النظام القمعي وهو ما يتطلب من المعارضة الإرترية مقاربة حذرة ومبنية على توافق وطني شامل.
تشكيل حكومة في المنفى لا يقتصر على إعلان سياسي رمزي كما هو حاصل لحكومة "قبري بهدوراي" التي أُعلن عنها في وقت سابق بل يتطلب مراعاة محددات دستورية وسياسية معقدة. أولى هذه المحددات هو فهم السياق السياسي والأمني للوضع الداخلي في إرتريا حيث يشكل غياب الدستور والإطار التشريعي أزمة كبيرة تقوض أي محاولة لتأسيس سلطة انتقالية. في هذا السياق تصبح الأولوية لتحديد الإطار السياسي والقانوني الذي يحكم تشكيل الحكومة أمر ضروري ومهم مع دراسة الخيارات المتاحة ومعرفة مدى قابليتها للتطبيق على أرض الواقع دون الوقوع في فخ الطوباوية السياسية أو الأفكار المثالية التي تكون مجرد نظريات تفتقر إلى التطبيق العملي.
مبادرات فردية وإشكاليات الشرعية:
لم تكن مبادرة "قبري بهدوراي" الذي أعلن نفسه رئيسًا للحكومة الإرترية في المنفى هي الأولى من نوعها فقد سبقتها مبادرات عديدة منها إعلان البروفيسور برخت هبت سلاسي الذي حاول أن يقدم نفسه كبديل للنظام مستندًا إلى خبرته في صياغة دستور البلاد إلا أن مشروعه لم ينجح بسبب غياب الدعم السياسي والتنظيم المؤسسي. كذلك جاءت مبادرة تلابايرو وجوهر قاضي لكنها افتقرت أيضًا إلى التوافق مع القوى السياسية الأخرى، مما أدى إلى تلاشيها بسرعة.
مبادرة يونس عبده لم تكن أفضل حالًا حيث ظلت مجرد فكرة فردية دون أن تتحول إلى حركة سياسية منظمة. حتى إعلان عبد الكريم عمر ناصر، ابن الشهيد عمر ناصر، عن حكومة انتقالية من لندن لم يجد طريقه إلى النجاح إذ لم يحظَ بالدعم الشعبي أو السياسي الكافي ليؤسس لمرحلة انتقالية حقيقية.
ما يميز هذه المحاولات جميعها بما فيها مبادرة قبري بهدوراي الأخيرة أنها تفتقر إلى الشرعية المؤسسية وتقوم على جهود فردية منعزلة عن السياق السياسي العام.
رئيس حكومة المنفي قبري بهدوراي ومجموعته لا ينتمون إلى أي حزب سياسي معروف ولم يتعاونوا مع تجمعات المعارضة الإرترية التقليدية التي تمثل القوى السياسية المختلفة. بالإضافة إلى ذلك فإن خلفيات بعض الشخصيات المرتبطة بمبادرة حكومة بهدوراي تُثير الشكوك حولهم حيث أطلق البعض منهم في السابق تصريحات تتناقض مع فكرة الكيان الإرتري كدولة مستقلة وارتبط آخرون بعلاقات مشبوهة مع أطراف إثيوبية تسعى إلى استخدام القوة العسكرية لإسقاط النظام القائم. هذه الارتباطات تضعف مصداقية المبادرات وتفتح المجال للتساؤل حول أهدافها الحقيقية ومدى قدرتها على تحقيق طموحات الشعب الإرتري في الحرية والديمقراطية.
التوافق الوطني والشرعية المؤسسية:
التوافق الوطني يُعد الركيزة الأساسية التي يجب أن تُبنى عليها أي حكومة في المنفى. هذا التوافق ليس مجرد وثيقة تُوقّع عليها الأطراف السياسية بل هو عملية معقدة تتطلب تفاهماً حول القضايا الانتقالية الأساسية ورؤية موحدة تُجسد طموحات الشعب الإرتري. يجب أن يشمل هذا التوافق وضع تصور واضح لإدارة المرحلة الانتقالية بما في ذلك تشكيل الحكم ومؤسسات الدولة وآليات الرقابة على الأداء الحكومي. وبدون هذا التوافق فإن أي حكومة منفى ستفتقر إلى الشرعية وستواجه صعوبات في الحصول على الدعم الشعبي والدولي.
محددات النجاح القانونية والسياسية:
من الناحية القانونية يتطلب إعلان حكومة في المنفى استناداً إلى مرجعية قانونية واضحة تُحدد آليات التكوين وصلاحيات الحكومة ومداها الزمني كما يجب أن تُحدد السلطة التي تملك الحق في تشكيل الحكومة والجهة المسؤولة عن مراقبة أدائها بما يضمن التوازن بين سلطات الحكومة ومسؤولياتها ويُضفي عليها شرعية تُعزز من قدرتها على العمل السياسي والدبلوماسي. هذه العناصر القانونية ليست ترفًا بل ضرورة لضمان قبول الحكومة دولياً وتحقيق أهدافها على المدى البعيد.
الدروس المستفادة وآفاق المستقبل:
كل التجارب السابقة وتجربة حكومة قبري بهدوراي الحالية تكشف عن غياب هذه المحددات الأساسية. فقد افتقرت حكومة "قبري بهدوراي" إلى التوافق الوطني والإطار القانوني الذي يمنحها الشرعية مما يجعلها مجرد محاولة رمزية عجزت عن تحقيق أي تأثير فعلي. إضافة إلى ذلك لم تنجح في تقديم رؤية استراتيجية تُعبر عن آمال الشعب الإرتري وبقيت معزولة عن القوى الفاعلة داخل وخارج المعارضة مما أضعف مصداقيتها وفعاليتها.
ومع ذلك لا يمكن إنكار أن فكرة حكومة المنفى تظل خياراً سياسياً ممكناً إذا ما أُحسن التخطيط لها. نجاح هذه الفكرة يتطلب تجاوز الأخطاء السابقة والتركيز على بناء مشروع سياسي متكامل يُراعي تعقيدات الواقع الإرتري كما يجب أن تكون الحكومة المقترحة جزءًا من استراتيجية شاملة تهدف إلى تعزيز وحدة المعارضة واستقطاب الدعم الشعبي والدولي وتوظيفها كأداة ضغط سياسي على النظام الديكتاتوري.
خاتمة:
تناول مسألة حكومات المنفى في السياق الإرتري يتجاوز كونه مجرد نقاش نظري أو مبادرات فردية ليصبح تعبيراً عن ضرورة سياسية ووطنية لمواجهة نظام استبدادي استنزف موارد البلاد وسحق تطلعات شعبه. فالحاجة إلى بديل سياسي شرعي ومنظم لا تُعد ترفاً فكرياً بل هي استحقاق تاريخي يتطلب استنهاض طاقات الشعب الإرتري في الداخل والخارج وتوحيد جهوده لمجابهة التحديات الراهنة.
مستقبل إرتريا يعتمد على إحداث تحول جذري ينبثق من رؤية سياسية متماسكة وقيادة رشيدة قادرة على تفكيك تراكمات عقود من القمع والاستبداد. ويتطلب هذا التحول تحقيق توافق وطني شامل يمهد الطريق لبناء مشروع سياسي متكامل يستند إلى أسس العدالة والديمقراطية وقادر على استقطاب الدعم الشعبي والدولي ليصبح أداة فعّالة للتغيير.
وفي ظل نظام أهدر إمكانات الوطن وقمع طاقات أبنائه تبقى وحدة الصف والعمل المشترك حجر الزاوية لاستعادة الدولة وبناء مؤسساتها على أسس القانون والعدالة. إرتريا بحاجة إلى قيادة مسؤولة تعبر عن نضال شعبها وطموحاته قيادة تضع مصلحة الوطن فوق كل الحسابات الضيقة وتسعى بوعي واستراتيجية إلى استعادة الكرامة الإرترية ومكانة البلاد على الساحة الإقليمية والدولية.
ابراهيم قارو
26.01.2025