06/03/2022
يوميات شباك دمشقي
نزار قباني
عندما كنت في السابعة من عمري
لم أتعلم العشق...على يد معلم...أو معلمة
ولم أدرس مبادئه الأولى في مدرسة
ولم أعثر على أوصافه في الكتب
الدرس الأول في العشق...تعلمته من الشبابيك...شبابيك دمشق
أقدم مركز للاتصالات في العالم..قبل أن تكون الأقمار الصناعية..و الرادارات..و أجهزة الفاكس
هي كانت شبابيك دمشق في النهار شديدة الخفر,تقاليد المدينة المحافظة..
حتى اذا جاء الظلام..اقتربت الشبابيك من بعضها
وأخذت تحاور بعضها..و تعانق بعضها..و تشكو لبعضها ما عانته من حرارة الشمس وطول النهار.
القبلة تطير من شباك الى شباك كحمامة بيضاء
و تحية الصباح القبلة تنتقل في الهواء تطير كزهرة ياسمين
شبابيك دمشق شبابيك عاشقة
شبابيك دمشق تغير عناوينها باستمرار..و تتقدم نحو بعضها في شهر الربيع..عشرين سنتيمترا..ثلاثين سنتيمترا..خمسين سنتيمترا
كما تشتبك أغصان الصفصاف..
فيلامس الصدر الصدر..والخاصرة الخاصرة..
وتدخل الأضلاع في الأضلاع..دون اكتراث بالخرائط الهندسية
ودون أن يكون لديها رخصة من بلدية العاصمة..حتى كان العشق يأخذ اجازة من أحد؟؟
****
شبابيك دمشق..لا تعترف بالفن المعماري الحديث
ولا تعترف الا بخرائط القلب..قد يكون القلب مهندساً مغامراً..أو ومجنونا..أو مطروداً من نقابة المهندسين..
ولكن دمشق فخورة بشبابيكها
وبالكحل الأسود الذي يمطر من ثقوب شبابيكها..
ألقَ فيها شيء من غرابة الحلم وشيء من غموض القصيدة..
و الذين يعرفون حارات دمشق القديمة,يعرفون أن هندسة الشبابيك فيها قامت على أساس عاطفي..
لا على أساسٍ معماري..
فلقد أرادها النجارون الدمشقيون أن
تكون منبر حوار..وأداة وصل..وجسراً تمشي عليه الأشواق في الليل دون أن يراها أحد..
شبابيك دمشق..تستريح نهارا..وتمارس الشعر عند الغروب..
و العشق بعد منتصف الليل
****
خلال رحلاتي الدبلوماسية الطويلة كنت
أغيب سنوات عن حارتنا..وعن بيتنا القديم في حي(مئذنة الشحم
وفي كل مرة كنت أزور حارتنا..بعد غياب أعوام
كنت أحس أن في جغرافية الحارة شيئاً ما قد تغير
وأن الشبابيك التي كانت على الطرف الشمالي..انتقلت الى الطرف الجنوبي..والتي كانت في الطاب الأعلى..نزلت الى الطابق الأرضي
وأن الأزهار الممدودة على شباك جارنا
زحفت خلال فصل الربيع الى شباك جارتنا..
شبابيك دمشق..تقوم بمهمة ساعي البريد
فلا تتقاضى أجراً..ولا تطلب ثواباً..
ولا تكشف سراً..ولا تقرأ رسائل العاشقين
كنت أتأمل هذه الظاهرة,ولا أخبر أحدا حتى لا يقال عني أنني مجنون
و لكن هجرة الشبابيك كانت هجرة حقيقية..وان كانت غير معلنة
****
كان أهل دمشق يحكون الحكايا عن البيوت التي تحدث في داخلها ظواهر مريبة..فيقولون عن هذه البيوت أنها مسكونة بالجان..أو العفاريت الحمر
وعندما رأيت شبابيك حارتنا بأم عيني..
تزور بعضها..وتدردش مع بعضها..وتعانق بعضها..وتنام على وسادة واحدة..وتتغطى بضوء القدر
عرفت أن البيوت المسكونة ليست من صنع المخيلة..
و أن العفاريت الحمر تقفز من شباك الى شباك اخر دون أن يراها أحد..أو يمسكها أحد
****
حين كنت صغيراً لم أجرؤ أن أخبر أمي عن هجرة الشبابيك..
كنت أخشى أن تعتبرني قد خاويت الجن..وأن تأخذني الى الشيخ ليكتب لي حجاباً يخلصني من سلطة العفاريت..
وبقيت محتفظاً بسري,حتى أصبحت شاعراً
وصار مسموحا لي أن أقابل أي عفريت أشاء..في أي مقهى أشاء..
صارت العفاريت الحمر من أعز أصدقائي..وصرت أشرب القهوة معها..و أستشيرها في بعض الأحيان في نصوص قصائدي
شبابيك دمشق..لا شبيه لها بين جميع شبابيك العالم..
فلها عيون,وأهداب,وأذرع,وشفاه,وأصوات,واشارات,و رموز سرية,ولغة
لا يفهمها الا الدمشقيون
فحين تشتاق..تمد ذراعيها
وحين تحزن..تقفل أجفانها
وحين تضجر..تصنع فنجان قهوة تركية..وتبصر في الفنجان
و حين يتوقف الشباك المقابل عن الكلام أو المراسلة
أو اطلاق القبلات في الهواء
يدخل الشباك العاشق في حالة اكتئاب..ويضرب عن الطعام
و عن الزيارات..وعن العناية بالأطفال..وسقي بأباريق الزرع
وعن المجاملات الاجتماعية ويتفرغ لكتابة رواية طويلة عن الحب الضائع..
الشباك الدمشي له حياة خاصة كحياة كل فرد من سكان البيت..وحريته هي حرية مطلقة
الحرية الاجتماعية,والحرية المدنية,والحرية العاطفية
و حرية التغزل بمن يشاء..باللغة التي يشاء
و ربما كانت حرية الشبابيك في بعض الأحياء الشعبية تتجاوز حرية شباب هذا الحي,وبناته..
فالشباك له حصانته..وامتيازاته..ومكانته الاجتماعية
وهو جزء من تاريخ دمشق كما هو جزء من شجرة العائلة..
حرية الغزل بين الشبابيك منصوص عليها في الدستور ومعترف بها في كل القوانين...
لذلك لا يمكن القاء القبض على شباك..أو محاكمته..بتهمة رمي وردة..أو قصيدة شعر..الى الشباك المجاور
وهكذا بقيت الشبابيك الدمشقية تتبادل الرسائل..والخواتم الذهبية والأساور المبرومة وعلب الملبس,والفاكهة المجففة..ونوادر العشاق والمتيمين منذ العصر الأموي حتى اليوم
لست وحدي الذي سمع حوارات الشبابيك الدمشقية,فشيخنا الأكبر محي الدين بن عربي,الجالس سلطاناً على قمة جبل قاسيون تابع هذه الحوارات,واعتبرها نوعاً من الوجد الصوفي,والهيام,والفناء في ذات المحبوب..و الإسراء ليلاً الى حضرة من نحب
و السفراء الأجانب الذين كانوا يمثلون بلادهم في دمشق
كانوا مبهورين,وذاهلين أمام هذه الظاهرة
وأذكر أن قنصل بلجيكا في دمشق في الخمسينيات ترك حي الدبلوماسيين في شارع أبي رمانة وجاء ليسكن في بيت عربي صغير,الى جوار بيتنا في حي(مئذنة الشحم
وعندما زرته في بيته,زيارة مجاملة,وجلسنا حول فسقية الماء الزرقاء
سألته:لماذا ترك الحي البورجوازي في أبي رمانة..وجاء ليسكن في قلب دمشق الأموية..
قال لي:لقد جئت الى هذه الدار الصغيرة لأتعلم اللغة العربية من الشبابيك..ألا تلاحظ معي-أنت الدمشقي-
أن شبابيك بيوتكم تتكلم بفصاحة نادرة
انني أجلس كل نهارٍ في ساعة الغروب على باب بيتي
وأحمل ورقةً..وقلماً..وأسجل
الأسماء..والأفعال..والضمائر..على الطبيعة
الشبابيك عندكم-يا صديقي-أهم من كل القواميس,والمعاجم
وعندما نقلوا القنصل البلجيكي بعد ثلاث سنوات من العمل في دمشق
استقال من منصبه وبقي في بيته..لأنه-على حد قوله-لم يستكمل دراسته في لغة الشبابيك
****
شبابيك دمشق كائنات شديدة الحساسية..وذات جهاز عصبي متطور..
انها ليست مصنوعة من خشب الجوز أو الشوح أو السنديان ولكنها
مصنوعة من دمٍ..ولحمٍ..وأعصاب
لذلك قضيت طفولتي وأنا أراقب أحوال الشبابيك
وطبائعها,وتحولاتها بين الليل و النهار
ومن كثرة ما رأيت,وسمعت,ولاحظت خطر لي أن
أكتب كتابا بعنوان(يوميات شباك دمشقي)...ولكن الناشر سألني ببلاهة
وهل هناك شباك في الدنيا..يكتب يومياته؟؟
قلت له:نعم..أنا أعرف شباكاً شامياً موهوباً
كتب أحاسيسه بأسلوبٍ رائعٍ ومخطوطة كتابه عندي
أجابني الناشر بصوتٍ ساخر
اذا كان الأمر كما تقول,فليتفضل(الأستاذ الشباك)الى مكتبي ليوقع على العقد
****
الشبابيك الدمشقية..أستاذة في فن العلاقات العامة
فما مر سائح فرنسي...الا تحدثت معه بالفرنسية
ولا مر سائح انكليزي...الا سلمت عليه باللغة الانكليزية
ولا مر سائح اسباني...الا وأخذته بالأحضان
وذكرته(بزمان الوصل بالأندلس)و بقصائد جدتها(ولادة بنت المستكفي
وبعد...فهذه مقتطفات قصيرة من(يوميات شباك دمشقي)لم يقبل أي ناشر عربي
أن يصدرها في كتاب...لأن الناشرين العرب..يركضون وراء
مذكرات العسكريين الذين لم يدخلوا الحرب
و السياسيين الذين لا يعرفون(كوع السياسة من بوعها
و الأثرياء الذين يتاجرون بصفقاتهم المالية والنسائية
و زعماء الدول الذين تركوا دولهم(على الحديدة
و رجال الدولة الذين خربوا دولهم
والمناضلين الذين لم يناضلوا الا على الورق
***********