22/07/2023
فتاة الليل:
ربما من خلال العنوان تعرفتم على موضوع قصتنا اليوم، لكن أتمنى ألا تحكموا على هذه الفتاة حتى تستمعوا لقصتها الكاملة.
انطلقت مهمتي في أول أيامها، من بناية تشبه في شكلها شكل مستشفى قديم، او شكل مساكن الجنود التي خلفها الاستعمار بعد رحيله، كانت بناية مكونة من طابقين، وبكل طابق يوجد تقريبا 60 منزل صغيرا الذي يعرف عندنا باسم "كارسونيه"، يعني منزل مكون من غرفة أو غرفتين زائد مطبخ وحمام.
لاحظت أن سكان هذه البناية، أغلبهم من المستأجرين، لذلك كان يجب علي معرفة الوقت المناسب لأقوم بإحصائهم، لم تكن المهمة سهلة، خصوصا أن هناك من يشتغل بالليل وهناك من يشتغل بالنهار. ولكن بفضل الله تعالى تمكنت من إحصائهم بالكامل باستثناء الأسرة التي تسكن بالمنزل رقم 60.
المنزل رقم 60، الذي قمت بطرق بابه المرة الأولى و المرة الثانية ما من مجيب، و بعد مرور يومين عاودت المحاولة، هذه المرة فتح الباب، لكن ليس باب المنزل 60، بل باب سيدة عجوز من الجيران كنت قد أحصيتها من قبل، قالت لي بان ذاك المنزل تسكن به فتاة تشتغل " بائعة هوى " دائما ما يأتي عندها شاب مرة أو مرتين بالأسبوع، هذا الكلام نفسه، الذي كان قد قيل لي من قبل. هذه المعلومات لم تكن تعنيني في شيء، لأنني مكلف بمهمة يجب علي القيام بها على أحسن وجه لذلك تركت لها ورقة مواعيد من تحت الباب.
بعد مرور 3 أيام تقربا وبينما كنت أحصي أسرة أستاذة جامعية، التي سأحاول أن أحي لكم قصتها فيما بعد، توصلت بمكالمة هاتفية من رقم لا أعرف صاحبه، استأذنت الأستاذة وأجبت، تكلمت معي فتاة يغلب على صوتها اللكنة الزيانية. ألو السلام عليكم، وعليكم السلام، أنا خديجة، الفتاة التي تسكن بالمنزل رقم 60، لقد وجدت الورقة التي تركتها لي، سأكون عشية هذا اليوم بالمنزل، قلت لها حسنا سأمر على الساعة الرابعة لأقوم بإحصائك.
وصل الوقت المحدد، وبينما كنت أصعد السلالم، سمعت صوت باب يفتح بلطف، وفور وقوفي امام باب المنزل رقم 60 أخرجت تلك السيد العجوز رأسها من باب منزلها، وقالت لي بصوت منخفض " إنها بالداخل، إنها بالداخل " ابتسمت في وجهها.
بعدما طرقت الباب، فتحت خديجة، وقالت المسؤول عن الإحصاء أدخل، قلت لها من الأحسن أن أقوم بإحصائك من هنا، ضحكة وقالت أنها لا تستطيع أن تجيبني عن أسئلتي والجيران يتنصتون علينا، تفهمت الأمر وهذا من حقها.
بالداخل وبالقرب من الباب جلست فوق كرسي، وما إن سألتها عن أسمها الكامل، حتى أشارت الي بيدها طالبة مني السكوت والانتظار، من خلال تعابير وجهها بدت لي وكأنها تتحسس صوتا ما، وبعد مرور 20 ثانية تقريبا توجهت مسرعتا نحو الباب وقامت بفتحه فإذا بها تجد تلك السيدة العجوز كانت واضعتا أذنها على الباب تتنصت علينا- يا له من موقف لا تحسد عليه – لم تعرف العجوز ماذا تقول أو ماذا تفعل سوى أنها طأطأت رأسها وغادرت المكان مسرعتا نحوى منزلها.
في تلك اللحظة نظرت إلي خديجة قائلة، أرءيت نوعية الجيران الذين يحيطون بي؟ أجبتها وعلامات التعجب لا تزال مرسومة على ملامح وجهي، قلت لها من الأفضل أن تتركي الباب مفتوحا، سأقوم بإحصائك بسرعة وأذهب في حالي سبيلي، كي لا أتسبب لك في مشاكل مع الجيران، ضحكت وسكتت قليلا ثم قالت، أ لهذه الدرجة سمعتي تسبقني؟ أعلم أنهم أخبروك عني الكثير.
قلت لها، لم اتي لهنا لكي أصدر أحكاما على أحد أو أحاسبه على ما يفعل في حياته، أنا هنا مكلف بمهمة أقوم بها وحسب.
قالت وعيناها مغرغرتان بالدموع، الناس هنا أدوني كثيرا، ثم استرسلت في الحكي:
اسمي خديجة أبلغ من العمر 25 سنة أنحدر من نواحي مدينة الخنيفرة توفيت امي بسبب مرض السرطان قبل 4 سنوات، و بقيت أنا وأخي الصغير رفقة أبي، الذي لم ينتظر كثيرا حتى تزوج بفتاة من قريتنا كانت تكبرني فقط بسنتين، قلت في البداية سيكون هذا أمر جيد ستكون بالنسبة لي بمثابة الأخت الكبيرة، لكن العكس هو الذي وقع، حيث أصبحت أنا عدوتها الاولى و لا أعلم لماذا ، على الرغم من أنني كنت أتكلف بكل الأشغال الشاقة داخل المنزل، لكنها كانت دائما تتشكى لأبي وتقوم بتحريضه ضدي، حتى بات يبحت عن اي طريقة للتخلص مني لدرجة أنه لا يمر الأسبوع إلا وقد جاءني بعريس أو عريسين القاسم المشترك بينهم هو أنهم أكبر سنا منه، لكن كنت دائما ارفض، وكلما مرت الأيام إلا وازدادت حدة المضايقات ، وفي يوم من الأيام وجدت نفسي في المحطة داخل حافلة متجهة نحو الدار البيضاء.
لم أشعر كيف مرة الطريق حتى سمعت مساعد السائق يقول لي لقد وصلنا إلى محطة ولاد زيان ما إن ترجلت من الحافلة حتى سمعت صوت أذان المغرب، كانت هذه هي المرة الأولى التي أسافر فيها لمدينة بعدة بمفردي، جئت لمدينة الدار البيضاء لأن لي أخ كبير يعمل هنا، اتصلت به لم يجب في البداية حينها بدأت مجموعة من الأفكار السيئة تجوب مخيلتي لكن بعد خمسة دقائق تقربا رن هاتفي إنه أخي قلت له مباشرة وبدون مقدمات، أنا داخل محطة أولاد زيان هل بإمكانك الحضور لتستحبني معك. بدأ يضحك ضنا منه أنني أمزح معه كالعادة، لكن بعدما تأكد من أن المسألة جدية تغيرت نبرة صوته وأمرني بالبقاء داخل المحطة الى حين قدومه.
داخل المحطة وأنا أتأمل في حال الناس هناك،.... وبعد مرور ساعتين تقربا جاء أخي الذي كان غاضبا وقال لي لماذا جئت بهده الطريقة، وفي هذا الوقت، قلت له أنني لم أعد قادرة على العيش مع ابي وزوجته داخل منزل واحد، لقد جئت لهنا لأسكن معك وأساعدك على مصاريف العيش.
قال لي بنبرة ساخرة وغريبة، إذن مرحبا بك في الدار البيضاء.
غير بعيب عن المحطة جلسنا داخل محل شعبي يعد وجبات خفيفة من أجل تناول العشاء، كانت ملامح أخي دالة على غضبه، ربما لم يتقبل مجيئي هكذا، كان بين الفينة والأخرى يحمل هاتفه من فوق المائدة ويتجه خارج المحل، في المرة الأولى قال لقد اتصلت بأبي قلت له إنك معي، لم أجبه، انتهينا من تناول الطعام وبقينا لمدة طويلة جالسين داخل المحل حتى قلت له ألن نذهب الى المنزل؟ سكت قليلا ونظر إلى الخارج ثم قال لي هذا هو المشكل، ليس هناك منزل أنا أكتري فقط بيت صغير رفقة صديقين لي، والأن أحاول أن أجد لك مكان تبيتينا فيه، كلامه نزل كقطعة ثلج باردة على قلبي لم أعد أشعر بأي شيء لماذا كان يخبرنا أنه يكتري منزل كبيرا لوحده؟ بينما كان الصمت يعم المكان رن هاتفه ثم خرج مسرعا من المحل، بعد خمسة دقائق تقريبا، عاد، وابتسامة خفيفة تعلو محياه ثم قال لي هناك فتاة كانت تعمل معي ستبقين معها حتى أجد لكي مكان أفضل.
ركبنا سيارة أجرى صغيرة، جلبتنا لهذه البناية الغريبة، كان الوقت متأخرا ليلا وبمجرد دخولنا من البوابة الرئيسية بدأ الناس الذين نصادفهم يرمقوننا بنظرات غريبة، حتى وصلنا الى هنا، طرق أخي الباب بلطف فسمعت صوت فتاة تقول أدخل فدفع الباب ودخلنا الى الداخل حيث كانت فتاة جالسة على كرسي داخل المطبخ قال لها أخي، سارة هذه أختي خديجة ستبقى معك إلى حين أن أجد لها مكانا تسكن فيه، ثم نظر الي وقال الوقت متأخر الأن، سأعود في الصباح و انصرف، بعدها سألتني سارة إن كنت قد تناولت العشاء فأخبرتها اننا تعشينا داخل محل بالقرب من المحطة، فأشارت الى مكان فارغ وقالت اليوم ستنامين هناك ثم تركتني وحدي.
في تلك الليلة لم أستطع النوم، رغم تعبي الشديد بقي دهني منشغلا أفكر في كل شيء، أفكر في أخي الصغير الذي تركته مكرهتا رغم أن أمي كانت دائما توصيني بالاهتمام به، أفكر في أخي الكبير الذي أصبحت عالة عليه، أفكر في نفسي وما الذي ينتظرني في هذه المدينة الكبيرة، أفكر وأفكر وفي لحظة من اللحظات تسلل النوم الي ولم أستيقظ حتى أيقضتني سارة صباحا، وقالت لي أنها ستخرج لإحضار الفطور، في تلك اللحظات كانت أشعت الشمس قد تسللت الى داخل المنزل كاشفتا معها كل تفاصيله، استغربت، كيف لبيت تعيش به فتاة أغراضه مبعثرة هكذا والأوساخ في كل جانب، بعد ساعة تقريبا عادة سارة وكان معها أخي يحمل بين يديه قفة بها مجموعة من مستلزمات الأكل، بينما كنا نتناول الفطور بدأت عدة تساؤلات تجوب راسي، لماذا هذه الفتاة فتحت لنا باب منزلها هكذا؟ وهل دخول أخي عندها عادي؟ لأنني لم أعتد على هذا بمدينة الأصلية.
بعد ما انصرف أخي، سألتني سارة عن مشكلتي مع زوجتي ابي فحكيت لها القصة كاملة وأخبرتها أنني جئت الى هنا لكي أشتغل وأساعد أخي، فسألتني عن نوع المهن التي أجيدها، أجبتها أنني غادرت المدرسة عندما كان عمري 12 سنة لأنني كنت مجبرة على مساعدة أمي المريضة، وأنا لا أجيد أية مهنة، عرضة علي أن أشتغل معها ثم بدأت تضحك، فرحت وقلت لها أنني سأفعل ما بوسعي لأتعلم بسرعة، قالت لي ألم يخبرك أخاك بنوع العمل الذي أشتغل به؟ قلت لها لا لم يخبرني قال لي فقط أنك كنت تشتغلين معه.
سكتت سارة في تلك اللحظة، ثم فتحة حقيبة اليد الخاصة بها وأخرجت علبة سجائر وبدأت تدخن، أمام هذا المنظر وقفت متعجبة من فعلتها، فقالت لي حاولي ألا تقعي في نفس الخطأ الذي وقعت فيه، عليك أن تبحتي عن عمل شريف تعيشين منه، ولو كان مدخوله قليل فإن الله يجعل بركته فيه، وبعفوية سألتها عن نوع عملها، سكتت لبرهة ثم قالت لي بأنها تعمل "بائعة هوى" وقالت لي بأن أخي واحد من زبنائها..
اختلطت بداخلي مجموعة من المشاعر السلبية، يا لها من صدمة كيف طاوعته نفس أن يرمي بي داخل هذا الوكر.
في تلك اللحظة قالت سارة لا تخافي عند غيابي لا تفتحي الباب لأحد، وإذا كان مع زبون أدخلي الى غرفتك وأقفل الباب بالمفتاح، تتكلم معي وأنا أحدث نفسي، يجب أن أكون قوية وأن أنظر الى الأمام لكي أتجاوز كل هذه الصعوبات ولأجد مخرجا من هذا البيت المشؤوم. الأن بدأت أفهم ماذا كان يقصد اخي بقوله، مرحبا بك في الدار البيضاء.
بدأت أخرج كل صباح باكرا للبحت عن عمل، و مرت عدة أيام بدون نتيجة، وفي يوم من الأيام وبينما كنت أستريح فوق كرسي بحديقة عمومية، جلست بالقرب مني سيدة عجوز قالت لي ما بك أراك تحملين هموما أكبر من عمرك، فأخبرتها أنني أبحث عن عمل مند أيام، ولكن بدون جدوى فنصحتني بالتوجه نحوى أحد الأحياء حيث الناس هناك يحتاجون لمن يساعدهم في أعمال النظافة، هذه العجوز التي منحتني جرعة كبيرة من الأمل بعدما تبادلنا أطراف الحديث وأخبرتها بقصتي الكاملة، في صباح اليوم الموالي توجهت مبكرا نحو ذلك الحي وبالفعل ومع مرور الأيام تمكنت من إيجاد بعض الأسر الذين يحتاجون لمن يساعدهم في أعمال البيت، بقيت على هذا الحال مدة ثلاثة أشهر، حتى جاءت الفرصة التي غيرت كل شيء.
عرض علي سيد كنت أساعد زوجته في أعمال البيت، أن أقوم بأعمال النظافة وأغسل الأواني بالمحل الذي يسيره، وبالطبع وافقت لأنني كنت بحاجة الى المزيد من المال، بعد أسبوع تقريبا من العمل داخل المحل، توجهت السيدة المكلفة بإعداد الفطائر( المسمن والحرشة ) نحو المسؤول، وقالت له أنها يجب أن تعود فورا إلى وجدة مسقط رأسها لأن أباها قد مات. وجد السيد نفسه أمام موقف محرج لأنه لم يكن بالمحل أحد يجيد إعداد الفطائر سواها، سألني إن كنت أعرف سيدة رزينة تجيد إعداد الفطائر تعوض الوجدية إلى حين عودتها، قلت له لا ولكن أنا أستطيع أن أحل مكانها، بدا يضحك، ربما لأني صغيرة، قلت له جربني فقط ومن بعد أحكم كما شئت، لم يكن أمامه خيار إلا أن يمنحني هذه الفرصة، وبالفعل اعجبته فطائري، وأعجبه اكثر سماع و رئية زبناء المحل يبدون إعجابهم بها. في عشية ذلك اليوم قال لي من الأن فصاعدا أنت المسؤولة عن إعداد الفطائر بالمحل،
وأخيرا شيء ما تعلمته أفادني في هذه الحياة، الأن أصبحت اتقضى أجرا محترما، لدرجة أنني تكلفت بمصاريف الكراء والمعيشة داخل البيت بالكامل بعدما كان الأمر مناصفتا بيني وبين سارة ، سارة التي كنت أعرض عليها أن تأتي لتعمل معي وأن نجد مكانا أخر لا يعرفها فيه احد ننتقل اليه، لكنها لم تستطع الابتعاد عن طريقها المشؤوم رغم إلحاحي الشديد عليها. وفي يوم من الأيام أخبرتها أنني سأبحث عن مكان أخر للسكن فيه، قالت لي اصبري قليلا فأنا سأذهب إلى الشمال لأسكن مع صديقة لي هناك لأن الأمور هنا لم تعد كما كانت من قبل، وأنت كذلك لن تجدي مكانا قريبا من عملك وبسومة كرائية قليلة مثل هذا المكان.
بعد عشرين يوما سافرت سارة الى الشمال وعلى ما يبدو أنها غيرت رقم هاتفها، وبقيت أنا هنا مركزة كل اهتمامي نحو عملي اخرج في الصباح الباكر وأعود متأخرة بالليل، يأتي عندي اخي مرة أو مرتين في الأسبوع يطمأن علي وأعطيه بعض النقود لكي يرسلها الى أبي بالخنيفرة من أجل أخي الصغير ليكمل دراسته ولا يحتاج لأي شيء.
الجيران هنا يعتقدون أنني فتاة من فتيات الليل وخصوصا عندما يرون أن أخي يأتي عندي كل أسبوع، والحمد لله أنني سأغادر هدا المكان قريبا.
للأسف الشديد السيد الذي كنت أعمل معه بالمحل توفي مؤخرا، والناس الذين كانوا يكترون له المحل عرضوا علي أن أقوم مقامه خصوصا أنني أصبحت اعلم كل كبيرة وصغيرة عن المحل وبإمكاني أن أسيره، طرحت الفكرة على أخي وشجعني بل جاء ليعمل معي ويساعدني في ادارة المحل،
الأن، الأمور تسير على أحسن ما يرام وأنا أفكر في إحضار أخي الصغير السنة القادمة ليكمل الدراسة هنا، كانت هذه هي قصتي ولا أعرف ماذا يحمل المستقبل لنا. القصة الكاملة توجد على قناة حميد بن عمار باليوتوب
https://youtu.be/4liOYKPCofw