01/12/2025
من يسبقُ …؟!
على مسافة غير بعيدة من حرائق لوس انجلوس، تلك التي راح دخانها الأسود الداكن يحجب الشمس عن مدينة الملآئكة لعدة أيام، أتتني على هاتفي رسالة نصية من إدارة الطوارئ لوس انجلوس انه سوف يتم حظر تجول بعد ثلاثين دقيقة من وقت إرسال الرسالة!
يستغرق الأمر حوالي ٤٥ دقيقة على الأقل في وقت تكون فيه الأمور على طبيعتها لأكون في منزلي! ما بالك في وقت تم فيه تعطيل الكثير من الطرق التي وقعت في مرمى الحرائق!! أدركت حينها أنني أمسيت بلا مأوى، واخذت بالاتصال بأحد أرقام مراكز الإيواء والذي كان مشغولا لمدة لا تقل عن عشر دقائق! وبعد انتظار جاء صوت موظفة مركز الطواريء : آسفة جدا .. لم يعد لدينا في هذا المركز مكان سوى لمن هم فوق الستين ، وأبلغتني أنه يتوجب علي التوجه إلى مركز آخر غير بعيد عنهم!!
لست حقيقة من هواة التجمعات وخلافه، وبالطبع سيكون مركز الإيواء به المئات من الناس .. وبعد دقائق وجدتني انصرفت عن فكرة اللجوء إلى مركز الإيواء إلى أحد فروع "الچيم" والذي لي فيه اشتراك دائم، وكان من حسن الطالع أن افتتحت جميع فروع هذا الجيم كمراكز إيواء كذلك للمتضررين من الحرائق !!
رأيت الجيم للمرة الأولى في صورة مختلفة.. نصفه تقريبا او يزيد .. قد تم إخلاؤه وتقسيمه إلى مربعات متابينة الحجم. كل مربع يحتوى على مجموعة من الخيام .. خيام المجموعة A تحتوى على عائلات من ٤ - ٧ أشخآص .. والمجموعة B تحتوى على خيام اصغر حجما وقد أعدّت لكبار السن الذين لا يحتاجون رعاية طبية، إلى المربع الأخير D وفيه خيام كثيرة تتسع لشخص واحد فقط..
أما النصف الثاني … ففيه كل الأجهزة والمعدات الرياضية وقد وضع بينها وبين الخيام عازل زجاجي سميك! فما ان تدخل إلى ساحة الجيم .. سمعت تلك الموسيقى الصاخبة السريعة الإيقاع، وصوت ارتطام أوزان الحديد والماكينات الرياضية وكأنك انتقلت إلى عالم آخر!
اقتربت مني سيدة في الستين من عمرها على اقل تقدير، غير أنها حافظت على رشاقة جسدها ولياقتها بشكل لافت للنظر.. ثم قالت: هل انت من الذين جاءوا من اجل المبيت هنا الليلة؟!
استدرت وقلت في نفسي: .. وهل معقول أن هذا ظاهر على وجهي لهذا الحد؟!.. كيف عرفت.. ؟! فسألتها: .. كيف عرفت .. قالت وهي تضحك: أنا آتي إلى هذا المكان لأكثر من ٣٥ عاما واعرف كل شخص فيه .. وسهل علي أن أميز اعضاء النادي عن غيرهم!
تمنت لي بقاءا آمنا بعد ان دار بيننا حديث سريع عفوي عن ظروف لجوئي لهذا الجيم تحديدا في هذا اليوم… والحق أن الكثير من الشعب الأمريكي بهذه السجية ، يتكلمون إليك ويتوددون إليك دون مناسبة، ويكفون أيديهم ويرمقونك بنظرات مقيتة أحيانا … وفي كلا الحالتين انت لا تدري لماذا هذا يحبك، ولا تدري كذلك لماذا آخر يُبغضك !!
على كلٍ التقينا مرة أخرى بعد في ساحة "الكارديو" ودار بيننا حديث رياضي آخر عن فوائد الكارديو وضرورته لعضلة القلب، وكيف أنها تفضي ٤٠ دقيقة يوميا منذ ٣٠ سنة تخصصها فقط للكارديو! ثم اضافت هذه الجملة التي امتعضت لها شيئاً قليلاً.. حيث قالت : إنني أؤمن بضرورة المجهود البدني، لإنه يمنحني حياة أطول! قلت في نفسي علها تقصد أن تنعم بحياة أكثر صحة.. غير أنها أكدت قاطعة بقولها : بكل تأكيد الرياضة تزيد من العمر … عن كل عشرين دقيقة تبذلها في الرياضة تمد في عمرك ثلاث دقائق!!
لا أدري من أين أتت بهذه الدراسة! كيف يزيد العمر فعلياً.. إن كان الله تعالى قد قدر الأعمار ولا يؤخّر نفسا - سبحانه - إذا جاء أجلها! كيف أشرح لها نظريتي البسيطة التي لا تحتاج إلى شرح! …
على كال حال - لماذا اشغل نفسي - وادخل في متاهات وحوارات لا طائل منها - اللهم إلا الجدال الذي لا يؤدى إلى خير!! تركتها وشرعت في إنهاء التمرين …وتمنيت لها ليلةً طيبة.. !
افترقنا … بعدها بعشر دقائق اندفعت سيارة اسعاف إلى مدخل الجيم وخرج منه ثلاثة رجال وامراة إلى داخل النادي الرياضي .. فعرفت على الفور أن أحدهم في الجيم قد آذى نفسه و لذلك أتت عربة الطواريء.
لم اهتمّ كثيرا إذا الآن الأمر متكرر … وخاصة في مثل ظروف الطواريء … ولا سيما في هذه الأيام وكأنك تشاهد أحداث فيلم أمريكي على وجه الحقيقة ..!
بعد دقيقتين دفعني الفضول لاقترب من رجال الإسعاف وهم يحاولون جاهدين اعادة التنفس لشخص قد وضعوه على الأرض ورفعوا أحد رجليه عاليا! … وزادني الفضول قليلا .. فاقتربت اكثر … حتى تمكنت من رؤية المصاب !! لم تكن سوى هذه المرأة التي كانت منذ قليل تتباهى بلياقتها ورشاقتها وشدة المجهود الذي تبذله في التمرين لتحافظ على صحتها أو كما قالت هي "لتزيد في عمرها"!!
سبحان الله… شعور غريب… وكأنها رسالة يقذفها الله في قلبك على يد شخص آخر! إنها ليست الأعمار وحدها التي بيد الله، إنما بيده كل شيء، سبحانه، وله يعود كل شيء … حتى وان كان الشخص صحيحا سليما قوياً يأخذ بأسباب الصحة ويبتعد عن كل ما يؤذيه، فإن الله سبحانه الذي قدّر له المشيئة في أن يتخذا القرار ويوفقه إليه!! وان شاء سبحانه … منع عنه الأسباب وسلط عليه نفسه فتثبطه عن الفعل… ببساطة انه الله … الله الذي يعلم ويدري ويسمع ويرى ويشاء ويقدر ويعطي ويمنع وإليه يُرجع الأمر كله!
عمرو عز الدين
— لوس انجلوس
١١ رجب ١٤٤٦هـ