16/12/2024
قصة سميح السمح ....
إستقبله أهلي لوالدتي في منطقة الكوارير بنوري بالولاية الشمالية وأصبح فردا من العائلة وهو الذي تعود أصوله لمصر وقد جاء منها بحثا عن حياة جديدة في جنوب الوادي.. تراه بعد أن إختلط بالأهل قد صارت سحنته تتشكل وفق سحناتهم والبيئة الجديدة التي أحبها وعشقها وأرادها أن تكون المأوي والملاذ له حتي آخر أيامه.. يذكرني سميح برواية الطيب صالح موسم الهجرة إلي الشمال وذلك الغريب الوافد والذي حمل معه كثيرا من السحر والغموض من خلال تفاصيل شخصيته التي أبدع في تصويرها الطيب صالح فلم يفصح في الرواية عن كل مخبؤ هذه الشخصية التي كانت محور روايته..
سميح كنا نجالسه في القوز في منطقة الكوارير أو في جامعها أو علي أسرتنا داخل الغرف نلتمس الدفء في ليل شتاء بارد نكاد لا نخرج أطرافنا من تحت البطانية خوفا من أن يسري إليها برد الشمال القارس ونظل علي حالتنا تلك حتي عند تناول الطعام فنخرج أصابعنا لندخلها في صحن القراصة الساخنة لتشيع الدفء في أوصالنا قبل بطوننا ..
كان سميح يشخص ببصره بعيدا كأنما يستعيد ذكريات طفولته وصباه في مكان ما في مصر وننظر في عينيه علنا نري مايري من ملامح الأمكنة التي ظلت في ذاكرته عن الأهل والأحباب وكثير من التفاصيل التي ترتبط بالوجدان والخاطر وتظل تنتابك بألم الحنين إلي ماض لن يعود...
سميح كان سمحا في أخلاقه فأحبه الجميع فإختار خالتي زوجة له.. فاطمة تلك الشخصية التي تمتاز بالبراءة والوداعة والرقة المتناهية وحنية أهلنا الطيبين وكنا نشتم رائحة ملابسها وهي تحتضننا إليها بقوة ونحن بعد أطفالا نجيئ للبلد لتمضية إجازة المدارس فإرتبطت عندي تلك الرائحة برائحة الحنان والطيبة إن كانت تشم تلك الأحاسيس.. هي رائحة مخلوطة بالبيئة وطبيعتها تشتم فيها رائحة التمر واللوبيا الخضراء والبامية والبرسيم ونكهة المنقة وبرتقال جنائن جدي الكاروري التي لا زالت تغدق عطاءها ويتماسك من فضلوا البقاء في البلد بتلك الأرض العظيمة التي شهدت تاريخا يحكيه البعض لنا ونحن صغارا لايخلو من الأساطير وحكايات فاطمة السمحة فإرتبطت عندنا تلك الحكايات التي ترويها الخالات وهن يعملن بأصابعهن حكا برفق في رؤسنا ويخللن الشعر بتلك الأصابع الحنونة فيعطي ذلك إحساسا بالأمان والراحة حتي يغلب علينا النوم فننوم في حجورهن غير مبالين ولا مهمومين..
فاطمة السمحة خالتي تتميز بلجنة في لسانها محببة تبدو أكثر وضوحا عندما ترفع صوتها وهي تحادث الأخريات فيبدو صوتها واضحا في هدأة الليل تسامر الوالدة والخالات فنغمض أعيننا ونتدثر بتلك الأصوات التي تنطلق بالضحك بين حين وآخر..
سميح راجل فاطمة بت السيدة ذلك اللغز الذي حير فكري وأنا أري فيه كتابا مغلق الصفحات يحوي الكثير من الحكايات والأحاجي ولكنه يلازم الصمت فلا يبوح إلا بالقليل ونحن جلوسا للإفطار وقد حقق فعلا لاقولا عبارة نأكل مما نزرع فالبصل الأخضر الذي يهتم بوجوده علي الصينية قد إقتلعه للتو من المزرعة البي تحت أما البامية والسبروق والفجل والورق فقد حرص علي جلبه من ذات المزرعة صباحا وفاطمة تبحث عن واقودها في الفجرية فتلملم جريد النخل ليكون وقودا للصاج الذي تتقن عليه صناعة القراصة بسمكها المميز لأهلنا الشايقية وتظل تنفخ في النار وهي تفرك حصاد سميح من البامية والسبروق والخدرة والورق فيخرج الطعم مميزا أتذكره دائما وأنا أسمع صوت صديق أحمد بذات طعم القراصة بالملاح الأخدر..
سميح السمح كان عونا لأهلي وهو قد ذاب فيهم فأصبحت لكنته الشايقية تمحو شيئا فشيئا لكنته المصرية إلا أن لونه المشرق ظل مميزا في ملمات أهلنا كنور وضاء وسط السمرة الغالبة..
ظل سميح يتواصل معي وهو المولع بالإذاعات فلا يفارقه الراديو ويظل يتنقل مابين لندن وصوت العرب ليعود إلي أمدرمان يسألني دائما عن سيرة بعض مذيعي أمدرمان الفطاحلة ويغبطني علي أنني قد إحتككت بهم ودخلت إلي أستديوهات أمدرمان المكان الذي تنطلق منه تلك الحناجر بأجمل الأصوات في نشرات الأخبار التي يعلو عندها صوت راديو سميح ويضعه بالقرب من أذنه ليتابع بشغف شديد سحر وألق هنا أمدرمان في ذلك الوقت ويسألني صف لي يابدر ملامح عبدالرحمن أحمد أو أحمد سليمان ضو البيت وفي عينيه ولع وحب..
سميح صدمنا الناعي وهو ينعيه فقد غادر الفانية وفي رأسي الكثير من الأسئلة التي كنت أود أن أطرحها عليه حتي ألم بجوانب تلك الشخصية المتفردة.. توفي سميح ولم أتمكن من إرسال الراديو الذي طلبه مني ليغير الراديو القديم الذي يبدو أنه قد تعب من كثرة تشغيله..
رحم الله سميح المصري رحمة واسعة فقد دخل علينا بهدؤ وغادرنا بذات الهدؤ..
إنا لله وإنا إليه راجعون..
🖋️بدرالزمان عثمان ....
الصورة لسميح المصري على اليسار بجانب الخيلان بكبري حفير نوري عند منطقة الكوارير ..