أعمدة الرأي السوداني

  • Home
  • أعمدة الرأي السوداني

أعمدة الرأي السوداني Contact information, map and directions, contact form, opening hours, services, ratings, photos, videos and announcements from أعمدة الرأي السوداني, Newspaper, .

24/05/2024

بين السودان وهايتي... حق الأمم في أن يكون لها جيش.

يتعطل القانون، بل يُلغى، متى تحدت "عصابات" أو "ثوار" لا فرق، هذا الاحتكار للسلاح في الدولة بسيطرتهم على أرض تابعة لها

عبد الله علي إبراهيم أكاديمي وصحافي
الأحد 24 مارس 2024



.

احتلت العصابات بورت أو برنس، عاصمة هايتي، وظلت تزحف على بقية أرجاء الجزيرة، فأغلقت المطار، ونهبت الميناء النهري، والمقرات العامة، والمتاجر، وهاجمت عشرات نقاط الشرطة. وبإغلاقها للشوارع قطعت إمداد الطعام عن الناس. واقتحمت السجن وأطلقت سراح 4600 محكوم. وأقامت الحواجز على شوارع لا يجتازها أحد إلا بإتاوة معلومة. ولك أن تستعيد سيارتك المنهوبة من قبل العصابات لقاء فدية، وكذلك لفك أسر مخطوف. وقال صاحب مستوصف إنهم قلبوا عالي مستشفاه على واطيها، وأخذوا كل ما له قيمة فيه من غرفة العمليات، وأجهزة أشعة إكس، ومن المعامل، والصيدلية. وأضاف "تصور إنهم يخلعون النوافذ من المستشفيات والأبواب". وتدير العصابات الأسواق غير الشرعية للمخدرات والمنهوبات. ولما ضاق الناس ذرعاً من انتهاكاتها، انضم بعضهم لجماعة "بوا كالي" التي تقتص منهم ثأراً، وتنفذ إعدامات فورية بحق من تلقي القبض عليه من العصابات مؤيدةً من أهالي الأحياء.
وما إن فرضت العصابات في هايتي على إريل هنري، رئيس الوزراء المكلف بعد اغتيال رئيس الوزراء المنتخب جوفينال مويس (يوليو/ تموز 2021) الاستقالة قبل أسبوع وهو خارج البلاد، حتى أعلنت تحالفاً رخواً باسم "فلنعش معاً"، وهاجمت مؤسسات الدولة لإزاحة ما تبقى من الحكومة، ولمنع أي قوى عالمية عسكرية من القدوم لهايتي. ورتبت العصابات لقيام مجلس حكومي لإدارة البلد. ودعا جيمي جريزير، ضابط الشرطة السابق وزعيم عصابة "جي-9" المعروف بـ "باربكيو" (الشواء) لفظاظته، إلى "الثورة المسلحة". وكان جنح أخيراً إلى العبارة الملطفة معتذراً للناس الذين نهبت العصابات بيوتهم. وقال في مؤتمر صحافي إن خطوتهم الأولى، التي تحققت، هي الإطاحة بحكومة هنري كما كرر كثيراً، ثم يسعى بعدها لقيام دولة قوية يسودها العدل لمحاربة الفساد. وقال إنهم سيحرصون على قيام نظام أمني قوي يأذن للناس بالحركة وقتما أرادوا والعودة متى شاؤوا. فهدفهم هو أن يروا هايتي جديدة. وأبدى استعدادهم لتقديم حلول للخروج من أزمة البلاد شريطة أن يحتفظوا بشوكتهم وأن يُعفوا من المحاسبة على الجرائم التي ارتكبوها.

صدى سوداني

ليس مما ورد أعلاه إلا وله صداه مما يشكو منه سودانيون ودوائر إقليمية وعالمية، لا سيما من ممارسات "الدعم السريع" إلا من واحدة، وهي غياب أي قوة ذات شوكة ليومنا في هايتي لتتصدى لانتهاكات هذه العصابات. فخلافاً للسودان، هايتي بلا جيش ينهض لحماية مواطنيه من أذى العصابات. إذ فككت أميركا جيش هايتي في سبتمبر (أيلول) 1994 جزاء انتهاكاته بحق المدنيين وكأنها قالت، في عبارة لأحدهم، "يجب أن ينتهي عهد جلد المدنيين". وتركز تفكيك الأميركيين على فرقة الأسلحة الثقيلة الفظة في الجيش التي وُظفت للترويع السياسي وإثارة الانقلابات. ونزل تفكيك الجيش على الصفوة وعامة الناس برداً وسلاماً. فقد سقم شعب هايتي من الجيش لفرط انقلاباته. فانقلب في يونيو (حزيران) 1988 على حكومة لسلي مانيقات، وعلى حكومة هنري نامفي في شهر سبتمبر من السنة ذاتها، وعلى حكومة جان برتراند آرستيد في سبتمبر 1991. ومعروف أن آرستيد أطيح به عن الحكم للمرة الثانية في فبراير (شباط) 2004 تحت ضغط ثورة مسلحة ذات صلة بصفوة المعارضة وفي ملابسات اتهم فيها آرستيد، ولا يزال، فرنسا وأميركا بتدبير خلعه في سياقها. واستقبل الناس حل جيشهم بحفاوة بالغة، فتجمهروا حول قوة أميركية أُرسلت لحفظ الأمن ورقصوا بهجة. وقال أحدهم للصحف، "أستطيع النوم الآن قرير العين. لن يستطيعوا بعد الآن دخول منزلي ونهبي".
وبلغ السقم المدني من الجيش (أو مفهومه في غيابه) حداً قصياً، فلم يستحسنوا عرض مويس، رئيس الوزراء، أن يستعيد الجيش لوظيفته في عام 2017. وكان مويس فقد ثقته في قوة حفظ السلام الدولية التي ساء صيتها كقوة أجنبية لتعاظم خروقاتها بحق الهايتيين وضربها بأصول مهمتها عرض الحائط. وطمأن مويس شعبه أن الجيش المستعاد سيكون مختلفاً وتحت خدمة الشعب، في مثل إسعافهم من النائبات، مثل الزلازل الذي ضرب الجزيرة في عام 2010 وخربها خراباً واسعاً. ولكن شعبه، من الجانب الآخر، استرجع ذكرياته المريرة مع الجيش. فخرج في تظاهرات يحتج على عودته هاتفين "لا نريد الجيش. نريد تعليماً". وقال عمدة سابق للعاصمة إن للبلد أسبقيات أكثر أهمية من الجيش، وأن مويس ما أراد من عودة الجيش غير تأمين سلطانه.

هبوط وانحلال

تنحدر هايتي الآن إلى درك غير مسبوق حتى بمقاييسها هي. وانعدم المغيث، فشرطتها، التي هي قوة الدولة المسلحة الوحيدة، عاجزة حيلةً وتسليحاً وكادراً. وهي القوة التي رأت أميركا (التي لم تشجع على إنشاء جيش في الجزيرة منذ انحلاله)، أنها كل ما تحتاج إليه هايتي من نظم للأمن. وأنفقت عليها بسخاء. ولكن كانت محاربة العصابات فوق طاقتها. فتخلى عن الخدمة فيها منذ نحو سنتين نحو 3 آلاف شرطي من جملة 15 ألفاً. هذا عن الحل من الداخل. أما عن الحل من الخارج فحدث ولا حرج. فيمكن وصف هايتي بمقبرة التدخل الأجنبي الذي أراد انتشالها من عثراتها الكبرى. فلا تريد أميركا اليوم، ولا حتى بعد اغتيال مويس في يوليو (تموز) 2021، إغاثتها لأنها ظلت تغيث (أو تفرض نفسها مغيثاً) طوال ما كانت هايتي بلا نتيجة. فامتنعت أخيراً عن التدخل العسكري فيها حتى لا تعيد في قولها "أخطاءها التاريخية" من مثل تلك التدخلات. ولكنها لا تمانع الآن في تمويل قوة تدخل شرطية من كينيا وبلدان أخرى. ويبدو أن الأمم المتحدة من جهتها استنفدت طاقتها للتدخل المباشر لإسعاف الجزيرة. فقد كانت لها بعثات للغرض نفسه من عام 1993 إلى عام 1996 ومن 2004 حتى 2017. وجلبت البعثة الأخيرة عاراً باقياً على المنظمة تمثل في نشرها للكوليرا، واغتصاب جنودها للنساء، ونهب الدور. واكتفت الأمم المتحدة بمباركة ابتعاث كينيا لشرطتها إلى الجزيرة. وهو ابتعاث لقي معارضة محلية فتنازلت كينيا نفسها عنه مشترطةً قيام حكومة انتقالية في الجزيرة لتعمل قوة الشرطة تحت سلطتها.

"انتفاضة الحرامية"

ومع ذلك فليس من مغيث لهايتي في محنتها الراهنة سوى التدخل العسكري لما خلت هي من الجيش وقصرت شرطتها دون التصدي للعصابات. وهذا هو رأي ألكسندر كوزول من الـ"نيويورك تايمز"، فيما تواجهه هايتي في أيامها هذه التي عز فيها المعين: هل هو إجرام عصابات أم انتفاضة؟ وانتهى إلى أنه شيء من كليهما ليخرج بمصطلح "الانتفاضة الإجرامية" criminal insurgency (أو "انتفاضة الحرامية" في تعريب دقيق مستفاد من أنور السادات). فقال إن نجاح كل تدخل لإسعاف هايتي أو فشله، رهين بالإجابة على هذا السؤال. وبدا أنه قلّب في رأسه جدوى ما تواضعت عليه أميركا والأمم المتحدة من إرسال قوة شرطية كينية لاستعادة الأمن في الجزيرة. وبرأيه أن ما يعتَور هايتي هو انتفاضة مكتملة الأركان. وقال إن الدول تحذر من وصف هبة العصابات بـ "الثورة" لأنه قول له عواقبه العملية. إذ تطاول العصابات، كمشروع إجرامي، إجراءات القانون في الدولة التي تتولاها الشرطة والمحاكم. أما صفة "الثورة"، بما تتضمن من مواجهة عسكرية، فتقع ضمن نطاق قوانين الحرب. وعليه اتفق لكوزول أن استرداد الأمن في الجزيرة رهين بتدخل عسكري أميركي وجنوب أميركي لا من شرطة كينيا أو سواها. وبدت له فكرة التدخل الشرطي فطرية. وما يورطنا فيها إلا لأننا لم نحسن تشخيص ما ألمّ بالجزيرة. فالشرطة تقوم بمهمتها في حفظ الأمن في ظل وجود حكومات تحتكر العنف الشرعي في سائر القطر. ولكن يتعطل القانون، بل يُلغى، متى تحدت "عصابات" أو "ثوار" لا فرق، هذا الاحتكار للسلاح في الدولة بسيطرتهم على أرض لها. ولا مهرب هنا من التدخل العسكري لاستعادة الأرض المحتلة من يد العصابة أو الثوار. ويضيف كوزول أن التمييز بين الجريمة المنظمة والثورة قد يكون ضبابياً. ولكن كليهما شيء واحد لاستخدامهما العنف المنظم لمنازعة الدولة في سيطرتها على أرض. وعليه فما يجري في هايتي هو "انتفاضة حرامية" في رأيه.

قبح السمعة

ربما صح تطابق الحالة بين هايتي والسودان حتى في وصف ما يعتريهما ليومنا بـ "الانتفاضة الإجرامية" في نظر كثير من السودانيين. ولكنهما يختلفان في أمر عظيم وهو وجود جيش في السودان مهما قلنا عنه. فسمعته بين قطاع كبير من المدنيين لا تقل قبحاً عن سمعة جيش هايتي الهالك ولنفس السبب وهو أنه مباءة انقلابات. ولا تجد في المساعي القائمة لإحلال السلام في السودان عناية بحقيقة هذا الوجود المؤكد للجيش. فيصرفها سعاة الصلح صرفاً بقولهم إن الحرب القائمة هي بين جنرالين طموحين في معنى أنهما سواء في الركاكة، لناحية عدم استحقاق أن يكونا حيث هما.
ولكن جاء حديث توم بيرييلو، المبعوث الأميركي للسودان، لقناة "الحدث" قبل أسبوع بعرفان غير مسبوق باستحقاق الجيش. فقال إن السودانيين يريدون تشكيل جيش موحد وبدء مرحلة انتقالية. وصارت صيغة "تشكيل جيش موحد" بعد الحرب ضمن خطاب "قوات الدعم السريع"، وتحالف القوى المدنية والسياسية (تقدم)، مما يُفهم منها الاستغناء عن القوات المسلحة كما عرفناها لبناء جيش قومي مهني من أول وجديد يراعي التنوع الديموغرافي السوداني. وهو جيش مبتكر تنحل فيه القوات المسلحة، و"الدعم السريع"، وقوات الحركات المسلحة، على قدم المساواة. وهذا بخلاف ما جاء في "الاتفاق الإطاري" الذي تراضى عنده الجميع قبيل الحرب. وكان قضى بدمج "الدعم السريع" والحركات المسلحة في القوات المسلحة. وجاء برييلو بعد ذلك بعبارة لم تمر معنا في أدبيات الموقف الأميركي تجاه حرب السودان، فسمعنا للمرة الأولى منه تمييزاً أميركياً للجيش بما تخطي رأيهم في الحرب كـ "صراع جنرالين" طموحين مرذولين للاستحواذ على الحكم. فقال بيرييلو، بعد حديثه عن الجيش الموحد، إن "القوات المسلحة السودانية عمرها أكبر من عمر الدولة ولا بد من احترامها".

وهذه العبارة عن استحقاق الجيش، بأي صورة فهمناها، لفتة مهمة إلى أن ما يتهدد السودان ليس تعثر التحول الديمقراطي، بل تلاشي الدولة التي الجيش أقدم منها. فعبارة المبعوث الأميركي موقف يعيد التوازن، لا لموضوع عدالة الحرب فحسب، بل في مراقبة أداء الأطراف خلالها أيضاً ومحاسبتهم. فحق الدولة-الأمة بجيش، لا محيد عنه مهما قلنا عن أخطائه البنيوية والمهنية والعقدية. ولنا في هايتي درس في مغبة استهتار الناس بهذا الحق بعقاب الجيش الظالم بمحوه من سجل الدولة كما صار وارداً في أدب أنصار "تقدم" من المدنيين. فصدر من هايتي مطلب غير مسبوق إليه هو الحق في أن يكون لها جيش. فقال محام من الجزيرة إن لهايتي حقاً دستورياً وسيادياً أن يكون لها جيش مهني منقطع عن السياسة يحمي الأرض والعرض.
لعل كلمة بيرييلو فاتحة دولية لإعادة تبويب الأزمة السودانية بخلاف ما اتُفق للساعين لحلها طوال هذه الحرب. فبدا أن حق الأمة في جيش، بحسب ما رأينا من هايتي، صار واحداً من حقوق الإنسان.

‏أربعة استنتاجات حول حرب السوداند.الشفيع خضر سعيدالقدس العربي | 14/يناير/2024 مؤشرات عديدة جعلتنا نتوصل إلى أربعة استنتا...
15/01/2024

‏أربعة استنتاجات حول حرب السودان
د.الشفيع خضر سعيد

القدس العربي | 14/يناير/2024

مؤشرات عديدة جعلتنا نتوصل إلى أربعة استنتاجات، ليس بالضرورة كلها صحيحة، وأتمنى صادقا أن تكون خاطئة، خاصة وأنها لا تستند إلى معلومات، وإنما تولدت من تلك المؤشرات العديدة.
الاستنتاج الأول، أنه من غير المرجح أن تتوقف الحرب ويسود السلام والأمان في السودان قريبا.

الاستنتاج الثاني، أن دولا في النطاقين الإقليمي والعالمي لا ترغب في وقف حرب السودان سريعا وتريدها أن تستمر لبعض الوقت.

الاستنتاج الثالث، أنه من المرجح أن تصبح حرب السودان إحدى فتائل بدء الإشعال أو التفجير في كل المنطقة، حربا إقليمية إن لم تتوسع وتصبح عالمية.

الاستنتاج الرابع، أن تحول الحرب السودان إلى مرتع خصب للمجموعات الإرهابية عابرة القارات. وحتى لا نصنف من ضمن المتشائمين، أو نضاف إلى زمرة الشاطحين، أو نُتهم بأننا نلقي الكلام على عواهنه، نستعرض أدناه بعضا من هذه المؤشرات العديدة، المحفزة لاستنتاجاتنا الأربعة.

من ضمن المؤشرات بأن الحرب لن تتوقف قريبا، وهو استنتاجنا الأول: غياب الإرادة عند طرفي القتال، أو أن القرار ليس كله بأيديهما. أنظر فقط إلى تعاملهما المتذبذب مع منبر جدة ومنبر الإيقاد. يحدثنا تاريخ النزاعات والحروب في العالم، بأن أي مواجهات عسكرية، إذا لم تتوقف في الأيام أو الأسابيع الأولى، فسوف تستمر لفترة طويلة، وكلما استطالت الفترة كلما تضاءلت فرص الوقف الدائم لإطلاق النار. كلما طال أمد النزاع، كلما تزايدت أعداد المجموعات المسلحة الخارجة عن سيطرة قياداتها المركزية، وتبدأ تتصرف جزئياً مثل قطاع الطرق؛ والبعض يحاول حسم النزاعات القديمة على الموارد في منطقة معينة، وهولاء، إضافة إلى المقاتلين من خارج السودان، في الغالب يرغبون في استمرار الحرب لأنها المصدر الذي يتكسبون منه الأموال. مع دعاوى الاستنفار والمقاومة الشعبية المسلحة، تتزايد الطبيعة القبلية للحرب، ويعلو خطاب العنصرية والكراهية، وينتشر القتل على أساس الهوية والإنتماء السياسي، وهذا يصعب كبحه ويطيل من أمد الحرب أو يجددها إذا توقفت ما لم تعالج الأسباب. تعثر وحدة القوى المدنية وعلو صوت الأجندة الأجنبية وسطها مما يعيق تلمسها الدرب الصحيح والذي يساعد في توقف القتال.
الاستنتاج الثاني حول أن دولا، في الإقليم والعالم، تريد أن تستمر الحرب ولا تتوقف سريعا تولد من
المؤشرات التالية: استمرار تدفق الأسلحة إلى الطرفين، ومن دول في الإقليم وفي العالم، دون أي نية أو اتجاه لحظر ذلك من الدوائر العالمية ذات القدرة، مما يعني تشجيع استمرار القتال. أراضي السودان حبلى بالمعادن الثمينة المطلوبة عالميا. ولكن ربما الأهم من ذلك تميزها بالخصوبة ووفرة المياه مما يجعلها من ضمن الحلول التي يعتمدها العالم للتغلب على أزمة الغذاء التي تضربه حاليا والتي ستصل القمة بحلول العام 2050. وفي تقرير صادر في العام 2004 عن مركز الدراسات الاستراتيجية العالمية ومقره واشنطن، بعنوان «سودان ما بعد السلام» وُصف السودان بالدولة الفاشلة والتي تحتاج إلى إعادة تشكيل وإبدال، عبر الاستحواذ على أراضيه، ولو بالوكالة. لذلك فإن استمرار الحرب يعني استمرار الفشل حتى يتفتت السودان وتتقاسمه عدة دول. * يحتل السودان موقعا رئيسيا في مخطط إعادة تقسيم المنطقة على أساس مشروع «الشرق الأوسط الجديد». والفوضى الخلاقة هي الآلية الرئيسية لتنفيذ هذا المشروع حتى يتم إعادة تقسيم المنطقة، والسودان، إلى دويلات دينية ومذهبية ضعيفة ومتصارعة، وعدم الرغبة في توقف الحرب يخدم هذا المخطط. فيما عدا التصريحات والإدانات لا يوجد دعم قوي من الدول والدوائر العالمية المتنفذة، وخاصة من الولايات المتحدة الأمريكية، لمنبر جدة.
الاستنتاج الثالث، حول إمكانية اتساع القتال وتمدده إقليميا وعالميا، تولد من المؤشرات التالية: موقع السودان الجيوسياسي يهدد بانتشار القتال إلى دول المنطقة، وخاصة بعض الدول المجاورة التي تعاني أصلا من هشاشة البنية التحتية والتوترات وضعف الاستقرار الأمني. الأنظمة المستبدة «المكنكشة» على كرسي السلطة، بعضها يسعى إلى الاستفادة من خدمات المنظمات المسلحة مثل فاغنر لتحقيق أهدافها، وبالتالي من الممكن أن تشتعل المنطقة إذا ما قررت فاغنر الدخول في حرب مع منظمات مسلحة أخرى، في إطار الصراع على السلطة. * إذا استطال أمد الحرب، فبالإضافة إلى تحولها إلى حرب إقليمية واسعة النطاق، قد تنجر إليها بعض دول العالم الأخرى التي لها مصالح بالمنطقة، وذلك في ظل تضارب المصالح الاستراتيجية بين الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة، في مواجهة مصالح الصين وروسيا. * كل دول العالم تهتم بأمن البحر الأحمر، والذي تدور فيه حاليا معارك بمشاركة بعض هذه الدول. وتتنافس عدة دول لإقامة قواعد عسكرية في ساحل السودان الطويل مع البحر، وكل هذه الدول لها علاقات مع طرفي الحرب.
وجاءنا الاستنتاج الرابع، حول إمكانية تحول الحرب إلى مرتع خصب للمجموعات الإرهابية عابرة
القارات، من المؤشرات التالية: * أصلا بالسودان ومعظم دول المنطقة خلايا إرهابية نائمة تتحين الفرصة، والفوضى في السودان تحقق لها ذلك. من نتائج الحرب، انتشار الأسلحة الخفيفة والتجارة بها غير المشروعة بسبب إنشاء ممرات تهريب جديدة تعبر الدول المجاورة للسودان. الأوضاع الهشة على الحدود تعزز مخاطر وقوع الأسلحة داخل المناطق المتنازع عليها في الأيدي الخطأ، وقد تشجع هذه الحالة منظمات مسلحة أخرى ذات أهداف سياسية وأيديولوجية متشابهة على استنساخ التجربة. استمرار تفاقم النزوح واللجوء داخل بيئة ينتشر فيها الفقر وغياب الرعاية الأساسية، يوفر الظروف المثالية للتنظيمات المسلحة لتجنيد عناصر من الفئات الهشة.
الإشارة الى هذه الاحتمالات والاستنتاجات وتداعياتها السالبة، لا يعني أبدا الاستسلام، فهذا ليس خيار شعب السودان. بل يمكنها أن تمثل وقودا ودافعا قويا للقوى المدنية السودانية لتجترح الرؤية السليمة لوقف الحرب.

13/10/2023

عن الحرية والتغيير



عبدالله مكاوي

بسم الله الرحمن الرحيم.

هذه المرافعة عن الحرية والتغيير، نسعي جهدنا الا تنطلق من موقف تعصبي علي طريقة هلال مريخ، او موقف اعمي يدرج اعمالها في خانة الافعال الصحيحة والاقوال الحكيمة. وهذا لا يمنع تركيزها علي الجوانب الايجابية، بعد ان أُشبعت ذما وتكسيرا لمجاديفها، وكأنها من احتكرت الحكم لمدة ثلاثة عقود، اذاقت فيها الشعب الويلات وسلمت البلاد للخراب! والسبب في ذكر محاسن بعضنا البعض في ظروف النكبات، هو تهيئة مدخل ملاءم للتركيز علي المخاطر الحقيقية التي تتعرض لها البلاد، والمحنة الدامية التي يعيشها شعبنا، بعد اندلاع الحرب الوحشية، ومن دون افق للحل في المدي القريب. وهو ما يتطلب جعل ايقافها اولوية، يجتمع حولها السياسيون المتشاكسون! عسي ولعل هكذا جهد (فرض عين) يعمل كآلية ضغط علي وحوش الاقتتال، الذين يبحثون عن مصالحهم الضيقة، ولو علي حساب المصلحة العامة.
اي هي حرب رغم كلفتها الباهظة علي كافة المستويات، لا تنطوي علي اي خير للمدنيين! لان انتصار اي طرف فيها، يعد بسلطة تسلطية ارهابية فاسدة. فالمؤسسة العسكرية تعدنا بارجاع الفلول، ومليشيا الدعم السريع تعدنا بعودة التعايشية الهمجية، في صورة ردة حضارية وانحدار لدرك العمالة الرخيصة. اما استمرارها دون حسم، فهو يعدنا بحالة مجهولة لا يمكن التنبؤ بها، بقدر ما يمكن التنبؤ بمآلاتها الكارثية.

وما يجب التاكيد عليه، انه في حال اجتمعت القوي السياسية والمدنية علي صعيد واحد، وهو امر يكاد يكون محال كما علمتنا التجربة، فان تاثيرها لا يتعدي الضغط الذي قد يثمر في احسن الظروف، وقد لا يثمر في اسوأها. علي اعتبار ان الصراع ذو طابع عسكري محض علي السلطة وامتيازاتها.
وهذا الدور الهامشي للسياسيين في واقعنا المتردي ليس استثناء، ولكنه واقعة مستديمة لسلطة متسلطة ظلت علي الدوام في ايدي العسكر. والمفارقة حتي عندما يحاول السياسيون والمدنيون استخلاص السلطة من ايدي النخبة العسكرية الحاكمة، بعد طوفان ثوري يعقب انسداد سلطوي، يتم ذلك عبر اللجوء لذات المؤسسة العسكرية لانجاز ذلك المطلب! ويمكن فقط اخراج الرعيل السياسي الاول الذي اعقب الاستقلال من دور الهامش، ولكنه للاسف هو ذات الجيل الذي سلم السلطة للعسكر، ليهمشو السياسية والسياسيين، ويدخلونا في ورطة الوصاية العسكرية التي لم نجد لها مخرجا!!
والحال كذلك، المؤسسة العسكرية الحامية للسلطة، اصبحت هي نفسها حرامي السلطة، الذي صادر كافة الانشطة المدنية او رهنها لمشيئته ومصلحته، او حاربها محاربة لاهوادة فيها. والغالب ان السبب في ذلك يرجع من ناحية، للمرحلة التاريخية التي يعيشها الشعب (لم ينجز مستحقات التحرر والتحديث والتمدن، للتخلص من الثقافة الابوية السائدة في الفضاء العام)، ومن ناحية للمنطقة الجغرافية المحيطة والموبوءة بالاستبداد الاستيطاني. وعليه، مرحلة تداول السلطة سلميا بين النخبة السياسية بعيدا عن سطوة العسكر، لم تتأهل لها البلاد وشعبها بعد. خاصة وهي ما زالت عالقة في منطق البيضة قبل الدجاجة ام الدجاجة قبل البيضة الدائري! اي ترسيخ الحياة المدنية والممارسة الديمقراطية، يسبقه نشر الوعي، وتحسين ظروف الحياة، وتوسيع مساحة الحريات، ونطاق الحقوق ..الخ، ولكن هذا عينه ما تتصدي له الانظمة المستبدة بنسختها العسكرية، وثقافتها الابوية الوصائية المتغلغلة داخل نسيج المجتمع باعرافه وتقاليده، حتي تحافظ علي بقاءها (من ينكر ان الكثيرين مازالو يراهنون علي ان خلاص البلاد في يد عسكري كارب قاشو، وذلك بعد كل هذه الاهوال والكوارث التي سببها العسكر!!). والمهم، حتي تصبح الثقافة المدنية هي السائدة، وتنزوي المؤسسة العسكرية في زاوية هامشية تختص بدورها المحدد لا تتجاوزه، ستظل السلطة تحت سيطرة البندقية، وما يترتب علي ذلك من تجيير موارد البلاد للخدمة الانشطة والمصالح العسكرية، وكأن المؤسسة العسكرية ملكة النحل التي يخدمها ويخضع لها الجميع، ولكن للاسف من غير عسل، استبداد وفساد فقط. والحال ان سيادة الثقافة المدنية تحتاج لجهود مضنية تضطلع بها جماعات وافراد ومؤسسات مؤمنة بالتمدين، وآخر ما يشغلها السلطة وامتيازاتها.

والمؤسف بعد ان استنفدت المؤسسة العسكرية اغراضها يسارا ويمينا وادمنت الفشل في سدة السلطة، وبدل الاعتراف بالخطأ (الانقلابات) وارجاع الامانة (السلطة) الي اهلها (حرية الاختيار). اخذت كبار جنرالاتها العزة بالاثم، ليتم التشكيك في ولاء المؤسسة العسكرية ذاتها، ويستعاض عنها اولا، بتكوين هيئة العمليات بجهاز الامن، وثانيا بتكوين مليشيا الدعم السريع، وبقدرات توازي امكانات الجيش ان لم تفُقه! وهنا ولاول مرة يختل صراع السلطة الذي كان محسوم سلفا لبندقية المؤسسة العسكرية! ليتحول صراع السلطة لحرب ضروس بين قوتين مسلحتين يكاد يتقاسمان النفوذ والسيطرة والمصالح! لتهدد حربهما العدمية بقاء الدولة بعد ان اهلكت الحرث والنسل.

ونخلص من ذلك، الي ان السياسيين والمعارضين بصفة خاصة، ليس لهم تاثير كبير سواء علي مجريات الحرب او اسباب نشوبها! بل هي اكدت مدي هامشية السياسيين وضاعفت من تهمشيهم! اما تاثير الاسلامويون فمرجعه يتعدي ادلجة العسكر لاندغام المصالح بينهما، كواحدة من استراتيجيات الترابي لضمان ولاء العسكر، وهو ما انتهي بخضوع الاسلامويين للعسكر بعد المفاصلة.
وما يهم، يمكن الجدل والمشاكسة بين السياسيين علي مدي الاستفادة من الهامش وكيفية استغلاله، ولكن يظل الهامش هو الحاكم للجميع. وهو ما لا يستدعي كل هذا التشاكس والاختلاف، إلا اذا كان مرجعهما تصور قدرات وهمية تدفع لطموحات اكثر وهما.

ولكن لحسن الحظ الهامش نفسه يسمح بالمناورة والحركة، ويظل هنالك متاح للسياسيين الهامشيين ما يمكن عمله، وليس اقل من الانتظام في جبهة عريضة ليقوي تاثيرها، ولكن الاهم امتلاك رؤية لايقاف الحرب تقنع الطرفين المتقاتلين علي ان مكاسبهم من ايقاف الحرب اكبر من استمرارها. اما العشم باخراج العسكر من المشهد السياسي والاقتصادي والسلطوي، من دون دفع كلفة اقناعهم بذلك تفاوضيا، وعلي مدي طويل نسبيا، اقلاه بما يكافئ تاريخ تسلطهم واحتكارهم للامتيازات (اي يصعب فطامهم منها مرة واحدة)، فهذا ضرب من الامنيات التي لا تعكس موازين القوي علي ارض الواقع، ولا كيفية يعمل الواقع المحكوم بصراع المصالح؟ وهذا بالطبع اذا ما كنا محظوظين ولم تنفرط عري الدولة، وهو احتمال يظل قائم بذات نسبة الاستهانة به، والانصراف لقضايا انصرافية، كعادة السياسيين علي التشاكس في كل شئ والاختلاف حول كل شئ! وعموما، امر ذو دلالة ان معظم تجارب الانتقال الناجحة، شملت نقاظ التقاء بين قوي معارضة فاعلة ومنفتحة علي المستقبل، وجزء وازن من المنظومة الحاكمة، ذو تاثير ومؤمن بالاصلاح (ويا كافي البلاء نعاني نقص مريع في الجانبين) والاسوأ من ذلك يتعرض الاقرب لهكذا موقف، وهو قوي الحرية والتغيير، لهجوم واشانة سمعة آنا الليل واطراف النهار!
وبالرجوع لقوي الحرية والتغيير، اكبر لوم يوجه لها، هو الاداء البائس اثناء الفترة الانتقالية، وتركيزها علي تفاصيل (دوامة الاداء الحكومي) الذي لا ينتهي، علي حساب قضايا الانتقال الاستراتيجية. وكذلك عدم التواصل المستمر مع قوي الثورة الحية (لجان المقاومة)، بسبب ارتفاع سقوف الاخيرة وميلها للجانب الشعاراتي والتطهُري غير العملي، علي حساب الجانب البرغماتي الذي يلاءم تعقيدات الحكم. ولكن هذا الاداء الموصوف اعلاه، من العدل والموضعية ان يستصحب ضعف الخبرة، والاهم العراقيل والمؤامرات التي واظب علي صنعها المكون العسكري، وبما فيها افساح المجال امام الفلول لتعطيل الفترة الانتقالية، وتشويه صورة الحكم المدني كمقدمة للانقضاض عليه. ولكن ما لا يمكن ايجاد عذر او مسامحة لقوي الحرية والتغيير هو السماح بتمرير اتفاقية جوبا التي وُظفت حصريا لخدمة (شراء) قادتها، نظير السماح لقوي الحرية والتغيير بتقلد المناصب والوزارات والتمكين لانصارها. وهذا الخطأ القاتل عانت منه قوي الحرية والتغيير ذاتها، قبل التآمر علي الفترة الانتقالية برمتها! وفي هذا السياق، ليس صحيح ان قحت هي من عطل المجلس التشريعي وبقية المفوضيات، رغم انها كانت مستفيدة من التعطيل، الذي يسمح لها بالعمل الحكومي من غير ضغوط، تصرفها عن تحسين صورتها مستقبلا! اما المتسبب الاول في تعطيل تكوين المجلس التشريعي عن عمد، بل والاصرار علي بقاء الجنرالات ولاة علي الولايات، هي الحركات المسلحة، التي تحالفت سرا ومن وراء ظهر قوي الثورة، مع المكون العسكري، والعمل معه كتفا بكتف لاجهاض الفترة الانتقالية! لكل ذلك اتهام قحت بخيانة الثورة غير صحيح، فمن خان الثورة وقبض الثمن، هم تحالف الموز بمختلف مكوناته، وعلي راسهم اطراف اتفاقية جوبا.
اما الشراكة مع العسكر فهي تقدير سياسي، حكمته موازين القوي وتاريخ طويل للمؤسسة العسكرية في اجهاض الحكم الديمقراطي. اي كان متوقع اقلاه ان تمنع الشراكة الانقلاب بوصف العسكر شركاء، وتاليا مصالحهم محفوظة. ولكن كعادة العسكر في الغدر، والرغبة في فرض سطوتهم المطلقة، عجل بالانقلاب! والغريبة ان اصحاب التفكير الارتدادي (ناس اللو وكان) ممن كانوا يراهنون علي امكانية ابعاد العسكر، يتناسون ان فض الاعتصام الوحشي منبعه محاولة ابعاد العسكر او مجرد التلويح بذلك، كما انهم ينسون قبل ذلك، نحن لسنا حيال عسكر بالمعني الحرفي للكلمة، ولكننا امام مصالح مافيوية ومسيرة اجرامية كان ابطالها هؤلاء الجنرالات المجرمون. كما ان الغاية من ازاحة اللجنة الامنية للبشير، ليس نصرة الثورة او الوقوف بجانب التغيير والانتقال، ولكن اخفاء رموز النظام السابق، للحلول محلهم، مع بقاء الحال كما هو عليه. وهذا ما جعل الشراكة نفسها عُرضة للانقلاب، بعد ان انتهت فترة سيطرة العسكر حسب منطوق الوثيقة الدستورية. اي في كل الاحوال العسكر متشبثون بالسلطة لامتلاكهم امتياز السلاح، وعدم استنكافهم استخدامه ضد المدنيين. وهذا عين ما اسرفت في الحديث عنه سابقا، من هامشية السياسيين والمدنيين وقلة حيلتهم وضعف تاثيرهم مهما ادعو او تخيلو عكس ذلك. ومن ينكر ذلك عليه مراجعة واقعنا القريب وتاريخنا البعيد، وما الحرب الدائرة الآن إلا التجلي الابرز لعجز السياسيين والمدنيين بمحتلف ضروبهم، ناهيك ان البعض ما زال يحدثنا عن الحلول الجذرية (الانتصار الحاسم علي العسكر واعلان نهاية دولتهم التي غطست حجرنا)! والحال كذلك (الله يلمنا في الدولة التغيير ملحوق).
اما مطالبة قحت بعمل المستحيل لايقاف الحرب وكانها تملك عصا موسي، او الضغط علي مليشيا الدعم السريع وكانها خاضعة لنفوذها، فهكذا مطلب يتغافل عن محدودية ليست قدرات قحت علي التاثير علي هذه الحرب الصفرية او احد اطرافها، ولكن هذا واقع يطال كل القوي السياسية. وفي هذا السياق يحمد لقحت انها الاعلي صوتا للمناداة بايقاف الحرب، والاكثر حركة خارجيا للوصول لاتفاقية توقف الحرب وتستأنف الفترة الانتقالية. اما مطالبتها داخليا بتبني حملات ايقاف الحرب، فحسب علمي ان الاستاذ ياسر عرمان من اوئل من طالب بذلك. ولكن كما هو معلوم في معظم مناطق سيطرة الجيش، يتعرض ليس انصار قحت ولكن كل انصار الثورة للمضايقات والاعتقالات، بمجرد التلويح او الاعلان عن مطلب ايقاف الحرب، لدرجة القول ان الاقاليم التي يسيطر عليها الجيش رجعت كيزانية بامتياز، وكاننا رجعنا الي اوائل عهد الانقاذ، بقبضتها الامنية الباطشة.

اما الحملة الجبانة لاشانة سمعة قحت، ومحاولة تصوير مواقف قحت وكانها متواطئة مع مليشيا الدعم السريع التي تمتهن الانتهاكات وارتكاب الفظائع. وهي حملة قد لا نستغربها من الفلول الذين يتبنون موقف معادٍ لقحت، ويرغبون في الخلاص منها بكافة الوسائل. ولكن ما مصلحة قوي الثورة في تبني هكذا اقوال فطيرة تصب في مصلحة خصمهم الاسلاموي! إلا اذا كان الغرض من شيطنة قحت محاولة ازاحتها لافساح المجال لقوي ثورية اخري، لتتسيد المشهد السياسي وتفرض اجندتها دون اعتراض او مقاومة، غض النظر عن مدي واقعيتها. في حين ان الظروف تتطلب النأي عن المصالح الخاصة والعناد (المكاجرة) والانفتاح علي المصلحة العامة، التي تتطلب توحيد الجهود، ويحمد للدكتور صديق الزليعي توضيح هذه الامور كاحسن ما يكون.
اما الجانب الآخر الذي يحرك الاسلامويين وكبار جنرالات المؤسسة العسكرية ضد مطلب قحت بايقاف الحرب، هو رغبتهم في استمرار الحرب غض النظر عن كلفتها وخطورتها وتمددها لمناطق آمنة، بمظنة الانتصار الحاسم علي مليشيا الدعم السريع، بوصفها القوة الوحيدة المسلحة التي تقف حجر عثرة امام اعادة السيطرة المطلقة علي البلاد. في حين ان كل المؤشرات تدلل علي صعوبة ذلك، وهذا اذا لم يحدث العكس! لانه ببساطة لا يمكن القيام بمهام الدفاع (مقرات الجيش الكبري علي وجه الخصوص) ولمدة نصف عام، والحديث عن الانتصار او حسم المعركة قريبا. كما انه لا يمكن الحديث عن انتصار الجيش بمثل قائد كالبرهان، يتميز بالضعف واهتزاز الشخصية وعدم معرفة اي شئ في اي شئ (مجرد دمية)! ولا يجيد غير امتهان الكذب وكره المدنيين والتنمر عليهم في وقت السلم، والاختباء والهروب اثناء المعركة، واكل الزلابية علي انغام احتراق العاصمة من حوله! وعموما اذا كانت قراراته في ادارة المعركة، من ذات نوع قراره العشوائي بفتح المدارس والجامعات من غير استعداد وتهيئة مناخ ومجرد توفير المرتبات للاساتذة والعاملين، ناهيك ان معظم المدارس والجامعات اصبحت مأوي لمن شردتهم الحرب؟ او قراره فاقد المعني باشراف جنرالات مجلس السيادة علي كوتات الوزارات التي توزعت بينهم كالكوتشينة، ما عدا من لم يقف معه في الحرب كالهادي ادريس والطاهر حجر (وكانه قرار قصده المكاواة). المهم، اذا كانت هذه عقلية وقرارات من يدير المعارك، فالمؤكد (واطتنا اصبحت وابشر بطول سلامة يادعامة)!
المهم الحرية والتغيير كانت حريصة علي ايقاف الحرب لايقاف ذات الانتهاكات التي يتباكي عليها اعداؤها! وكذلك منع تمددها علي يد مليشيا الدعم السريع، التي تجوس خلال الديار فوضي وتخريب واذلال ونهب واستباحة كاملة (وكان الله في عون اهل العيلفون، ولا نعرف الدور علي مين في ظل استمرار هذه الحرب اللعينة)! فهل هنالك شخص عاقل او به ذرة اخلاق يمكن يؤيد هكذا مليشيا همجمية، ناهيك عن تحالف سياسي يتغيا البحث عن تاييد الجماهير لانجاز اهدافه ومشاريعه السياسية؟ بل الموقف من فظائع الدعم السريع تحول لمعيار لمعرفة حقيقة الرجال، وازال القناع عن الكثير من الذين لطالما شنفوا آذاننا بالحديث عن الوعي والقيم والعدالة والثورة والانتقال..الخ، لنكتشف جماعة تعاني من مركبات النقص والاطماع السلطوية، ورغبة محمومة لتصفية حسابات ضد ابرياء، ذنبهم فقط انهم مختلفون عرقيا ويسكنون رقعة جغرافية مختلفة!
اما علاقة قحت بالدعم السريع، فمنشأها الاتفاق الاطاري، الذي اتي اصلا لحل مشكلة الانقلاب التي تورط فيها المكون العسكري بشقيه واجهض الفترة الانتقالية. اي هو جهد لاستئناف الفترة الانتقالية باقل التكاليف، ونزع فتيل الازمة بين اطراف المكون العسكري بتوسط المدنيين! لانه حتي في غياب الاتفاق الاطاري كانت الحرب مرجحة، طالما ان الجنرالين طامعين في السلطة بطريقة منفردة، بعد ان تضاربت مصالح داعميهم خلف الكواليس. كما ان ذات الاتفاق تنبه لمعضلتين جهد لحلهما، وهما قضية توحيد الجيوش، وخروجها من السياسة والاقتصاد والسلطة، علي اعتبارها القنابل الموقوتة التي تهدد استقرار البلاد وتمنعها من النهوض. وتاليا اجهاض الاتفاق الاطاري عجل بالحرب، بسبب عقدة ذات المعضلتين، ومن يتضرر من علاجهما.
كما ان الحرية والتغيير لم تصنع مليشيا الدعم السريع، ولم تفسح لها المجال لتتحول الي غول يرغب في ابتلاع الدولة! ولكنها تعاملت معها كامر واقع. فهي تحولت لقوة مسلحة توازي الجيش وقد تفوقه في النفوذ والسيطرة! وعليه، اي محاول لانكار ذلك او الاستهانة به، يمثل وصفة جاهزة لفناء الدولة وتعذيب اهلها اكثر مما هم معذبون! اي هنالك فارق بين كره مليشيا الدعم السريع وتشنيع فظائعها، وبين حقيقة وجودها المادي علي الارض، وقدرتها علي التاثير الحاسم في موازين القوي، وتحديد مسار الدولة! اي وجود الدعم السريع من الاخطاء الاسترتيجية والتفريط في الامن القومي، التي ليس لها علاج ساهل او طوباوي، او يمكن ارجاع الاوضاع لما قبل ميلاد هذا المسخ الدموي وتضخمه. ويبدو والله اعلم ان الحرية والتغيير بوصفها الاكثر واقعية، تتعامل مع هذه الوضع كما هو، دون انكار او اماني او شعارات ليس لها جذور علي ارض الواقع. ومن ثمَّ تجهد لايجاد حلول لهذا الواقع البئيس، واهوال الحرب الكارثية. والسؤال والحال كذلك هل يمكن ايقاف الحرب دون التواصل مع الدعم السريع، ومراعاة مخاوفه ومصالحه؟ وهل هنالك مؤشر لحسم الحرب ضد الدعم السريع في ظل توازن القوي المتقارب، وسيطرة الدعم السريع علي العاصمة كمركز السلطة والقرار؟ وهل حسم معركة العاصمة اذا حدث، يعني نهاية الدعم السريع؟ وفي كل الاحوال، الخطورة كل الخطورة ان يكون امرنا خرج من ايدينا وذهب لايادٍ خارجية كل ما يهمها مصالحها، وهي بطبعها الاكثر جهلا بتعقيدات هذه البلاد الهشة.
وهنالك جانب هام، وهو ان قحت لم تدعِ انها وصي علي الثورة او البلاد، وظلت علي الدوام تؤكد اهمية تكوين جبهة عريضة، تتصدي لمهام الانتقال سابقا وايقاف الحرب راهنا. وغالبا كثافة نشاطها واعتدالها الذي ساعدها علي التواصل مع المكون العسكري في الداخل، والفاعلين في الخارج، والوقوف بصرامة ضد الفلول ومخططاتهم، هو ما جعلها محط شيطنة بدل الاستفادة من مميزاتها، لمواجهة الشياطين الحقيقين وعلي راسهم شيطان الحرب وداعميها من اعداء الانتقال.

وعلي العموم قحت مكون افرزه المجتمع بمشاكله وتعقيداته ومرحلة تطوره، لتصبح كغيرها من الكيانات والتجمعات السياسية احد مظاهر المجتمع. رغم وقوع العبء عليها كغيرها من المكونات السياسية، لمعالجة قصور المجتمع والنهوض به، كاحد وظائفها. كما لا يمكن محو تاريخ مكونات قحت ونضالاتها كافراد وكيانات ضد الانقاذ منذ انقلاب يونيو 89م. وما راكمته من خبرات سياسية وتنظيمية ونضالية لا يمكن التفريط فيها بسهولة. لنبدأ من جديد وكان التاريخ بدا مع ثورة ديسمبر وقحت ليس لها اسهام فيها! ولكن من جانب آخر، توقع خروج قحت من قانون الهامش الحاكم للقوي السياسية، ومن ثمَّ امتلاك تاثير حاسم علي الاوضاع كتاثير العسكر، هو نفسه يدخلنا في دائرة الاوهام والنيات الطيبة بعواقبها الجهنمية.
واخيرا
قد نختلف مع حماس في خطابها السياسي وتوجهاتها في كيفية تحرير فلسيطين وادارة الدولة؟! ولكن ذلك لا يمنع ان العملية العسكرية التي قام بها جناحها العسكري، سواء من جهة التخطيط والتنفيذ او النجاح وقوة التاثير، فهي تثير العجب وتحكي عن قدرات الانسان الفلسطيني، الذي تنقصه الامكانات ويعاني الحصار، ولكن ذلك لم يمنعه تحويل التحديات الي انجازات ودروس في كيفية تحويل المعاناة والظلم الي قدرة علي الابتكار ومضاعفة روح الصمود والمقاومة (لا ياس مع الحياة)؟! ولكن نقطة الضعف تجسدت في عدم حساب ردة فعل اسرائيل، وانعكاس ذلك علي الشعب الفلسطيني في غزة. اي التركيز علي الجانب العسكري واهمال حساب الكلفة السياسية والانسانية والعمرانية. وهنا نجد حماس كغيرها من الحركات المسلحة، تحتكر حق التصرف نيابة عن السكان، مع ان الاخيرين هم من يدفع الثمن! ولو ان العدو الصهيوني الاحتلالي يصعب ان يقارن باي عدوٍ آخر.
اما من جانب اسرائيل فقد دفعت ثمن الغطرسة وعدم الاكتراث بحقوق الشعب لفلسطيني واعتمادها فقط علي القوة المادية لفرط سطوتها. لتتلقي ضربة موجعة كسرت هيبتها وهشمت الصورة النمطية التي كرستها، كقوة لا تقهر وغير قابلة للاختراق. وبدل من مراجعة هذه السياسة العدوانية ليس علي الفلسطينين فقط، وانما ضاعفت فاتورتها بالتآمر علي كل الثورات ومشاريع الانتقال الديمقراطي في المنطقة، وذلك بالعمل علي اجهاضها عبر عملاءها في المنطقة من قادة بلاد وجيوش ومليشيات وتنظيمات مجتمعية! لمنع الشعوب العربية والافريقية من النهوض والمساهمة في انجازات الحياة والاستمتاع بمنجزاتها. في حين ان مراعاة الحق الفلسطيني ومساعدة شعوب المنطقة العربية والافريقية علي عيش الحياة الكريمة في اجواء الحرية والديمقراطية والتنمية، هو اكبر ضامن ليعيش الجميع في سلام، واوربا الغربية اصدق نموذج.

اما صمت المجتمع الدولي علي تجاوزات اسرائيل لكافة القوانين والاعراف والمبادئ الانسانية، وهي تشن حرب ابادة علي شعب غزة الاعزل، في حملة انتقامية رعناء. فهو يعمل قبل كل شئ علي عدم احترام هذه القوانين والمبادئ، لانها تفتقد للتعميم والحياد. قبل ان تهتز صورة العالم الغربي الجميلة، التي تتطلع لها الشعوب المقهورة. والاسوأ ان هذا الكيل بمكيالين قد يهيئ البيئة لانتاج متطرفين وارهابيين، او اقلاه قد يمنح سرديتهم التعاطف. اما المجاهرة بدعم اسرائيل علي عدوانها علي الابرياء (ولو كان الثمن انتصار انتخابي)، فهو الهمجية عينها، التي تنشرها المليشيات المنفلتة في منطقتنا المنكوبة. يا للمأساة الانسانية وهشاشة وجودها، حتي ما تتحصل عليه من مكاسب بكلفة خرافية، تثبت المحكات كم الزيف الذي يختبئ تحت قشرتها السطحية. ودمتم في رعاية الله.

Address


Website

Alerts

Be the first to know and let us send you an email when أعمدة الرأي السوداني posts news and promotions. Your email address will not be used for any other purpose, and you can unsubscribe at any time.

Shortcuts

  • Address
  • Alerts
  • Claim ownership or report listing
  • Want your business to be the top-listed Media Company?

Share