15/03/2024
الزيف
كان التيار و مكتضا بالنظارة ، حيث كانت تمثل رواية البخيل لموليير ، وكان جمهوره كالمعتاد خليطا من طلاب التسلية ومحبي الضهور ومدعي الفن وعشاق الخيال، وكان علي أفندي جبر المترجم بوزارة الزراعة بين الجالسين في الصفوف الأمامية، وكان يتبع التمثيل بين اليقظة والنوم، واضعا خده على يده، ومسندا مرفقه الى مسند المقعد وكان قد طالع في بعض المجالات عن الرواية ماجعله يضنها آية من آيات الكوميدي فجاء التياترو بنفس تواقة الى الضحك والسرور، وسرعان ماخاب رجاؤه وفرت حماسته وكاد يستسلم للنعاس، ولكن الأقدار أرادت أن تتبرع بتعويضه عن خيبته؛ ففي أثناء الاستراحة دنا منه النادل وانحنى على اذنه وقال باحترام وتأذب:(( هل للبك أن يتفضل بالذهاب إلى البنوار رقم واحد؟ )) ثم ذهب إلى حال سبيله. ونضر علي أفندي إلى البنوار رقم واحد فرأى الستار الأبيض مسدلا عليه فأدرك أن به ((تحريما))، وقام من توه وغادر الصالة وقصد إلى البنوار وهو يضرب أخماسا في أسداس، وطرق الباب مستأذنا فسمع صوتا رخيما لايعرفه يقول : ((تفضل)).
فتررد لحضة سريعة لأنه أدرك_لدى سماعه الصوت الغريب_أن في الأمر خطأ ولكنه كان من الرجال الذين تغلبهم على نفوسهم في محضر النساء جسارة غير محدودة وحب للمجازفات وثقة بالنفس وطيدة، فاقتحم الباب غير هياب وصار وجها لوجه أمام السيدة الجالسة. وكانت في الأربعين ممتلئة الجسم ناضجة الانوثة، يزين وجهها العاجي حسن تركي ممصر، ويدل على طبقتها العالية ثوبها الانيق ونضرتها الرفيعة وحيلها الثمينة، وقد بهر الرجل أمام روعة الحسن وانحنى باحترام وهو يقول لنفسه في اشفاق:(( وأسفاه ستعلم السيدة بالخطأ وسرعان ماتنتهي المقابلة! )) ولكن خاب ضنه لأن السيدة ابتسمت إليه تحية كأنه هو المعني، وقالت برقة تعرفه بنفسها : (( أرجو ألا يسوءك إقلاقي لراحتك... أنا أرملة المغفور له علي باشا عاصم! )).
يسوءه! ينبغي أن يعد نفسه من المحضوضين في هذه الدنيا لأن سيدة كتلك السيدة تقول له مثل هذا الكلام بتلك اللهجة الرقيقة! ترى لماذا دعته لبنوارها؟ فهو لايذكر أنه رآها من قبل وإن كان يعلم علم اليقين أنه قرأ اسمها في بعض الأخبار الخاصة بالجمعيات النسائية، وخيل إليه غروره أنها بما رأته من حيث لم يرها وأنها ربما وقع في
نجيب محفوظ، همس الجنون، ص12