في عدد أيلول من العام 1998، رُوِّست الصفحةُ الأولى من "النشرة" بعبارة "أولى المجلاّت العربية - تأسست عام 1863"، وما زالت تُروَّس كلُّ أعداد "النشرة" هكذا حتى اليوم - إنها أمّ المجلات العربية قاطبة.
أمّا د. عدنان أبو غزالة فيزيد على هذه المعلومة حقيقةً أخرى في كتابه American Mission in Syria: A study of American Mission Contribution to Arab Nationalism in 19th Century Syria ، (الترجمة: الإرسالية الأميركيّة في سورية: دراسة في مساهمة الإرسالية الأميركيّة في [نشوء فكرة] القومية العربية، في سورية القرن التاسع عشر)، عندما يذكر "النشرة" كإحدى مصادر الاستنارة العربية التي قادت إلى نشوء القومية العربية والثورة ضد الاحتلال العثماني لبلادنا، ولمّ شمل السوريين واللبنانيين، وتوحيد كلمتهم ضد المستعمر (العثماني، ولاحقًا الفرنسي)، من بين مساهمات المُرسلين الأميركيّين في بلادنا.
يبلغ عمر النشرة هذا العام 156 حولًا – إنها مفخرةٌ لأصحابها، خاصّة أنّ السينودس – بكنائسه بشكلٍ خاصّ – قد أعاد الاهتمام بالمجلّة بعد توقف قسريّ دام أكثر من عقد من الزمن إبّان الحرب اللبنانيّة الأهليّة، عندما أناط تحريرَها بالطيب الذّكر، الشيخ يعقوب الحوراني، وأعطاه من الدعم ما مكّنه – بهمتّه التي لا تعرف الكلل، وغيريَّتِه التي تأبى الملل – من أن ينطلق "بالنشرة" ويعدو بها صاعدًا، يلفّه الفرح بهذه الابنة الكريمة الغالية، فجدّد العملَ بحسب الهدف من المجلّة، الذي هو جزء من هدف السينودس الإنجيلي الوطني في سورية ولبنان وإرساليته بشكل أساسي.
في نيسان 2006، استلم الواعظ نجيب عوض رئاسة تحرير المجلّة من الطيّب الذكر، الشيخ يعقوب حوراني؛ وكان قد سبق هذا عملُه كمساعد لرئيس التحرير فترةُ سنة ونصف تقريبًا، واستمر رئيسًا للتحرير حتى شباط 2010، مع انقطاع من أيلول 2008 حتى آب 2009، كُلّفَ خلالها القس أديب عوض رئاسةَ التحرير، وعاد القس أديب ليترأّس هيئة تحرير "النشرة" من آذار 2010، حتى حزيران 2017. اليوم يرأس تحرير "النشرة" الشاب النشيط والموهوب، الواعظ ربيع طالب، الذي استطاع بحُسْن ذوقه وهمّتِه أن يحافظ على مكانة "النشرة" وعطائها وتشويقها؛ نرجو له دوامَ التقدّم والنجاح ببركة الربّ يسوع.
"النشرة" - أوّل مجلّة في اللغة العربية، تُعَدّ اليوم أرشيفًا عالميًّا مهمًّا، بدليل أنّ أربع أطروحاتٍ لدرجة الدكتوراه كُتِبت خلال السنوات الخمسَ عشْرة الأخيرة عن دور "النشرة" ومساهماتها، ثلاث في أوروبا (النمسا – ألمانيا - إنكلترا)، وواحدة في الولايات المتحدة؛ زار هؤلاء (الكتّاب والكاتبات) مكاتب النشرة وانكبّوا على أرشيفِها في كلّية اللاهوت للشرق الأدنى بانتظام، كجزء من تحضيرهم.
مِنَ الأمثلة البسيطة على وثوقيّة "النشرة" تسجيلُها أسبوعيًّا، ولأكثر من قرنٍ من الزمن، حالةَ الطقس في بيروت وجبل لبنان، ومعدَّل تساقط المطر والثلوج، والحرارة، والمظاهر الفلكيّة حول العالم ومجريات الحروب (البلقان، الشرق الأقصى، الهند وباكستان، شمال أفريقيا، الحربيتين العالميتين...)، وزيارات الملوك والأباطرة والرؤساء، والأوضاع الاجتماعيّة في "سورية" (هكذا كانت ترد للدلالة على الجمهورية اللبنانيّة والجمهوريّة السوريّة اليوم)، وتطوّر دور المرأة ومكانتَها، والسجالات العلميّة التي كانت ترافق تطوّر الفكر حول العالم (مثال، نظريّة النشوء والارتقاء)، وكيف كانت الكنيسة الإنجيليّة (في "سورية") ومؤسّساتُها تتعامل مع هذه الأفكار المستجدّة، ومراجعَ أسبوعيّة لنموّ الكنيسة الإنجيليّة والمدارس الأحديّة (في "سورية") وأنشطتها، والمؤسسات التابعة لهذه الكنائس – انتشارُها وعددُ طلابِها ومدرّسيها، وسعرَ صرف العملات العالميّة... هذا غيضٌ من فيض، على سبيل المثال لا الحصر. فتصوّر، يا قارئي العزيز، أهمّية مصدرٍ كهذا بالنسبة إلى الباحثين في علوم المال والاجتماع والسياسة والمناخ والسكّان!
إليكم مِثال من إحدى أسبوعيّات العام 1865، وكان عمر "النشرة" سنتين ونيّف فقط: "في أوائل شهر كانون الثاني، خلال موسم الأمطار، عاين سكان مكّة، المدينة المقدّسة عند مائة وخمسين مليون مسلم في العالم، دفقًا هائلًا من البروق والرعود والأمطار والرياح. ابتدأ هطولُ الأمطار عند منتصف الليل، وما هي إلّا هنيهاتٍ حتى اندفع سيلٌ عرمرم من جبل النور إلى وسَط المدينة وملأ الحرمَ الشريف بعمق ستة عشر قدمًا (خمسة أمتار) غامرًا الحجرَ الأسود الشهير (الكعبة)، وأتى على ثلاثين من الذين كانوا نيامًا داخل المسجد. أما الخسارة الكبيرة الأخرى التي لا تعوَّض فكانت تدمير مكتبة الكتب العربيّة تدميرًا كاملًا، وهي كتبٌ لا توجد في أيّ مكتبةٍ أخرى في العالم. كما خرّب السيل ثلاثمائة بيت بالكامل، وفقد ثلاثمائة شخص حياتهم، ودُمِّر ثلثُ المدينة بالكامل...". وفي خبر آخر من العام ذاته: "25 كانون الثاني – مع هذا التاريخ بلغ عدد البروتستانت في منطقة صيدا ستّ مائة، وفي لبنان (جبل لبنان) خمسمائة، وفي بيروت مائتين، وفي حمص أربعين، وفي طرابلس الشام ثلاثين...". ومعلومات كثيرة جدًّا وثمينة غيرُ هذه وتلك...
يا له من منجمٍ رائع للمعلومات، قَصَدَه، ويَقْصده، الباحثون وطلابّ المعرفة والمتخصِّصون من كلِّ أرجاء العالم!
مرّ على "النشرة" رؤساءُ تحرير كُثُر، كان من بينهم المبرّزون في الأدب والعلم، أمثال فاندايك وبوست وفورد وإبراهيم الحوراني، هذا الأخير تحدّى لغةَ القرآن في كتيّبه "الرُقُم"، فأبدع، ويذكره محمّد كِرْد علي في كتابه "المعاصِرون" كأحد أساطين اللغة العربيّة في زمانه (القرن التاسع عشر). لا ننسى أيضًا الطيّبَي الذكر القس جورج خوري وعديلَه القس حنا حردان الخوري – صهرا القس مفيد عبد الكريم... وغيرَهم من الذين انتقلوا إلى ديار المجد بعد أن حمَلوا مشعلَ هذه المنارة الإرثيّة السينودسيّة بأمانة وجدارة، كان آخرهم حبيبنا الموسوعيّ - الشيخ يعقوب حوراني.
هؤلاء جعلوا "النشرة"، بعد مئة وثلاث وأربعين سنةً على تأسيسها، تغدو أرشيفًا عالميًّا للدارسين.
تضيق المساحة عند الكلام عن "النشرة" في تاريخ الكنيسة والفكر الشرق أوسطيّين؛ لذا سأختم بهذه الأبيات من الشعر التي نظّمها أحد "هواة" النشرة، وأرسلها إلى التحرير في حينه:
إلى "النشرة" المظفّرة
بطاقة شكر، وتقدير ...
يا نشرةً رفدتْ ذوي الألبابِ بأجلِّ ما يَهدي لنهجِ صوابِ
من روضةٍ قدسيّةٍ آلاؤها عَبَقتْ بطهرِ نفائسِ الأطيابِ
جَمَعتْ شتاتَ مواهبٍ وعوائدٍ لمعارفٍ بلغتْ ذرى الإعجابِ
في الدينِ والدنيا بكلّ هَناتها ومكارمِ الأخلاقِ والآدابِ
فلها صَدارةُ كلِّ قلبٍ مؤمنٍ كالمورد الأصفى لعذبِ شرابِ
سِفرٌ ثمينٌ مفرَدٌ في دُرِّهِ يُغني النُهى بفرائدِ الأحقابِ
ما شُكرهُ فرضٌ وأنبلُ واجبٍ يُطري جلالَ صحيفةٍ وكتابِ
منّي لأسرتها نقيُّ مودّتي لعظيمِ ما رصدتْ ليومِ حسابِ
في حيث يُجزى الناسُ عن أعمالهم وذرى النعيم لناصعِ الجلبابِ
(جبران نادر، بقرزلا - عكّار، في 11/ 12/ 2015)
القس أديب عوض