18/12/2024
في رسالته المثيرة إلى رئيس محكمة الشعب (Volksgerichtshof)، القاضي النازي "رولاند فرايسلر" (Roland Freisler)، أشار الفيلسوف "كورت هوبر" (Kurt Huber) إلى مسائل من نضاله من أجل الحق، وكانت الرسالة في مقام المرافعة أمام المحكمة.
عن كتاب "عاشت الحرية! فلسفة الوردة البيضاء" (دار ابن النديم والروافد الثقافية ناشرون، 2025).
«كمواطن ألمانيّ، وكأستاذ ألمانيّ، وكشخص سياسيّ، تشبَّثتُ بذلك ليس فقط بموجب حقِّي في الدِّفاع عن نفسي، بل كذلك من حيث واجبي الأخلاقيّ في المشاركة في بلورة مصيرنا الألماني، وفي عَرْض المظالم والأخطاء والتصدِّي لها... ما سعيتُ إليه هو إيقاظ الحسّ الطُلَّابي، ليس عبر وسائل مُنظَّمة، بل فقط بكلماتي؛ وذلك لحثِّهم ليس على العُنف وإنَّما على التَّبصُّر الأخلاقيّ لما يحصل من عيوب ونواقص خطيرة في حياتنا السِّياسيَّة؛ وحثِّهم على العودة إلى المبادئ الأخلاقيَّة الواضحة، وإلى النِّظام الدُّستوريّ، وإلى الثِّقة المتبادلة بين الأفراد. لم يكن هذا غير شرعيّ أبدًا، بل العكس، إنَّه استعادة الشَّرعيَّة عينها. تساءلتُ على منوال "الأمر الشَّرطيّ" لكانط ماذا كان سيحدث لو أنَّ هذه القاعدة الذَّاتية دبَّرت أفعالي كلَّها وصارت قانونًا كونيًا؟ لأجل ذلك هناك جواب واحد: ضرورة إصلاح النِّظام العام، والأمن، والثقة في الحكومة، وفي حياتنا السياسيَّة. على عاتق كل شخص مسؤول أخلاقيًا أن يرفع صوته ويضمُّه إلى صوت الآخرين ضدَّ ما يُهدِّدنا من قواعد القوَّة الغاشمة على حساب العدالة، وضدَّ الاستبداد على حساب الإرادة نحو الخير الأخلاقيّ. إنَّ مَطَالب الأقليَّة الوطنية من أجل تقرير المصير الذَّاتيّ تعرَّضت للإساءة عبر أوروبا، ولا تقلُّ أهميَّةً عن متطلبات حماية الهويَّة العرقيَّة والوطنيَّة. إنَّ الحقَّ الأساس المشترك بين الشُّعوب نَقَضه الإضعاف المنتظَم للثِّقة بين النَّاس. فلا حُكم هو أشدُّ ترويعًا لدى مجتمعٍ سوى تقبُّل أنَّ لا أحد منَّا يشعر بعد الآن بالأمان من جيرانه، ولا الأب من أبنائه.
كان هذا ما سعيتُ إليه، وما كان ينبغي عليَّ فعله.
ولكلّ شرعيَّة خارجيَّة ثمَّة حدودٌ قُصوى يقبع وراءها المزيَّف واللاأخلاقيّ. تُبلَغ هذه المرحلة عندما تُستعمَل كذريعة للجُبن والتي لا تقف حاجزًا أمام الجور العلنيّ. إنَّ الدَّولة التي تُلغي حريَّة التَّعبير عن الرَّأي والتي تُخضِع الجميع لعقوبة قاسية، وتُعاقب كذلك كل من يحتكم أخلاقيًا إلى النَّقد، ويقترح أشياءً من أجل الإصلاح، وتحشر كل ذلك في عِداد "التَّحضير للخيانة العُظمى"، إنَّما تنتهك قانونًا غير مدوَّنٍ، قانونٌ يقبع في الغرائز الصحيَّة للشَّعب والذي كان حيًّا فيها وسيبقى حيًّا دائمًا وأبدًا. لقد أتممتُ غايتي في الإنذار وقُلت كلمة التَّحذير، ليس في تجمُّعٍ صغير وسرّيّ، بل أمام السُّلطات المسؤولة، وأمام القضاء الأعلى للإقليم. ولكي أسديَ هذه النَّصيحة، وهذا النِّداء الصَّريح من أجل العودة إلى المبادئ الحقَّة، فإنِّي رهنتُ حياتي. أطالب بعودة الحريَّة إلى الشَّعب الألمانيّ. لا نريد أن نهدر حياتنا القصيرة مُستعبدين ومُكبَّلين، ولو كانت قيودًا وأغلالًا من ذهب الرَّخاء والثَّراء المادّيّ. لقد جرَّدتموني من رُتبتي وامتيازاتي في الأستاذية والدُّكتوراه بدرجة مشرّف جدًّا (summa cm laude) التي تحصَّلتُ عليها، وجعلتموني في مستوى المجرم الحقير. ولا محاكمة من أجل الخيانة يمكنها أن تحرمني من الكرامة الدَّاخلية للأستاذ الجامعيّ، وللمعترف الصَّريح والجريء في رؤيته للعالم وللدَّولة. إنَّ أفعالي ومقاصدي سيُثْبتها مسار التَّاريخ المحتوم؛ ذلكم هو إيماني الرَّاسخ. أدعو الله العليّ القدير أن تُثبت قوَّتي الباطنة أفعالي الظَّاهرة، وأن تنبع في الوقت المناسب من شعبي. لقد فعلتُ ما كان عليَّ فعله بإيعازٍ من الصَّوت الباطنيّ [الضَّمير]. أتحمَّل تبعات ذلك على نفسي وفق الكلمات الجميلة ليوهان غوتلب فيخته:
”وأنْتَ سَتَتَصَرَّف كَمَا لَوْ
تَوَقَّف مَصِيرُ ألمانْيَا كلُّها
عَلَيْكَ وَعَلَى أفْعَالِكَ وَحْدَكَ
والمسْؤُوليَّة هيَ مَسْؤُوليَّتكَ وَحْدَكَ أنْتَ“».
الأستاذ كورت هوبر