19/08/2023
لوحة الموجة العظيمة قبالة ساحل كاناغاوا احد أشهر اللوحات في التاريخ وفي العالم ماذا تعرف عنها؟!
محمد زعل السلوم
يقدم متحف أتامي للفنون آيس كريم يعيد من خلاله انتاج وتشكيل لوحة الموجة العظيمة في كاناغاوا والاجمل تجسيد جبل فوجي من خلال كعكة لكن ما الذي تعرفونه عن هذا الكنز المذهل الذي قدمته اليابان للعالم ساجيبكم بالتفصيل
الموجة العظيمة قبالة ساحل كاناغاوا للفنان كاتسوشيكا هوكوساي
("Katsushika Hokusai "Kanagawaoki Namiura)
العمل الفني الياباني الأكثر شهرة على مستوى العالم ترك بصماته على الفن المعاصر في الغرب في أواخر القرن التاسع عشر. حدث ذلك عندما سُلطت الأضواء على الكثير من الأعمال الفنية اليابانية بعد أن فتحت اليابان أبوابها للعالم. وحتى عندما كانت اليابان دولة منغلقة على نفسها، كان فنانوها يدرسون الفن الغربي على الرغم من قلة المصادر المتاحة. هذه الصورة المطبوعة بالقالب الخشبي للفنان هوكوساي تعكس أيضًا ما اكتسبه من دراساته للفن الغربي. ومن خلال هذا العمل الفني الذي يصوّر الأمواج وجبل فوجي، يلقي برنامجنا الضوء على سعي الفنانين الشرقيين والغربيين المستمر لابتكار أشكال جمالية جديدة.
يطلق على هذه اللوحة اسم "الموجة العظيمة" قبالة ساحل كاناغاوا وتم انتاجها حوالي عام 1831، وهي بالتأكيد ليست صورةً كبيرةً من حيث الحجم، فأبعادها لا تتعدى حوالي 26 سنتمتراً في 38 سنتمتراً، ويظهر في صدر الصورة بحرٌ هائج. وهناك موجةٌ عاتية توشكُ على التحطّم وهي تملؤ نصف الصورةِ الأيسر تقريباً، وتتقاذفُ الأمواجُ عدداً من القواربِ الطويلة، التي قد لا يتسعُ الواحدُ منها لأكثرِ من عشرةِ أشخاص. كما نرى أشكالاً لأشخاصٍ وهم يجدفون بأجسادهم للمحافظة على توازنهم. وفي منتصف الصورة تُرى عن بُعد من خلال فجوةٍ بين الأمواج لمحة للشكل الثابت الذي لا يتحرّك لجبل فوجي، الموضوع الحقيقيّ للصورة.
الصورة من إبداع كاتسوشيكا هوكوساي وهو فنان يوكيو ايه نشطٌ في ايدو المدينة التي أصبحت الآن طوكيو منذ أواخر القرن الثامن عشر إلى أوائل القرن التاسع عشر، وكانت الكلمة اليابانية يوكيو ايه في تلك الفترة تعني "صورة معاصرة" بمعنى أنها صورٌ مواضيعُها الرئيسية هي الناس والمشاهد السائدة في زمانهم، وصور يوكيو ايه المنتجة بالطباعة بالقوالب الخشبية كانت شائعةً بشكلٍ خاص كأحدِ الفنون المألوفة التي كان الحصولُ عليها سهلاً حتى بالنسبة لعامة الناس.
كان هوكوساي أحد فناني اليوكيو ايه البارزين وقد ترك إضافةً للكثير من الرسوماتِ والأشكال التوضيحية، تركَ مجموعةً كبيرةً من الصور المطبوعة بقوالب خشبية. وقد اشتهرت من بينها على وجه الخصوص مجموعته التي تضمُّ 36 منظراً لجبل فوجي، يظهر فيها الجبل من زوايا مختلفة، وصورة الموجة العظمة قبالة ساحل كاناغاوا هي إحدى صور هذه المجموعة، وكانت منذ لحظة ظهورها من أكثر الصور مبيعاً. وقد ظلت عدة مئات من النسخ من هذه الصورة باقية ويمكن العثورُ عليها في الوقت الحاضر لا في متحف طوكيو القومي فقط، بل وفي المقتنيات الفنية على امتداد العالم أيضاً. وكانت صورة الموجة العظيمة قبالة ساحل كاناغاوا نموذجاً للأعمال الفنية اليابانية التي أدهشت الغرب في الماضي.
كانت اليابان قد فرضت قيوداً صارمة على التجارة والسفر إلى الدول الأخرى ومنها، اعتباراً من أوائل القرن السابع عشر، ولما تقم اليابان بإنهاء سياستها الإنعزالية تلك وإعادة فتح أبوابها على العالم إلا بعد ذلك بأكثر من مئتي سنة. في عام 1854، وهذا الانفتاح سرعان ما أطلق سيلاً من الأعمال الفنية اليابانية التي كانت تُنقلُ إلى أوروبا، وكانت لوفرةِ الزوايا التصويرية والتركيبات الإنشائية للمناظر التي لا وجود لها في الغرب تأثيراتٌ كبيرةٌ على الفنانين الانطباعيين من أمثال فان غوخ، وغيرهم من الفنانين الذين تلَوهم.
لكن الفنانين اليابانيين الذين نالوا إعجاب الغرب كانوا في الحقيقة قد تعلموا الشيء الكثير من الفن الغربي قبل فتح اليابان أبوابها على العالم، واستخدموا تلك الأساليب في إثراءِ أنماطهم التعبيرية.
كيف تعلّموا ما تعلّموه عن الفن الغربي في بلدٍ عزَلَ نفسهُ عن العالم؟
هيرويوشي كازاوا هو رئيس أمناء المتحف القائم على الصور والتماثيل في متحف طوكيو القومي وهو يخبرنا أن ناغازاكي الميناء الوحيد المفتوح للتجارة مع عدد محدود من الدول من بينها هولندا والصين، كان نافذة اليابان على الغرب. ويقول : "كانت مجرد نافذةٍ صغيرة، لكن الاهتمام بالأشياء التي كانت تأتي عبرها كان شديداً للغاية، كانوا يجمعون المعلومات ويتعلمون الأمور المتعلقة بالفن التشكيلي حتى من أشياء مثل المطبوعات والأشكال التوضيحية وانخرط هوكوساي نفسه في تحضير المواد لطبيبٍ هولندي حضر إلى اليابان لجمع المعلومات عن الثقافة اليابانية، وبالتالي ربما قد يكون قد تلقى معلومات من الهولنديين مباشرةً."
ما الذي يمكن أن يكون هوكوساي قد وجده في الصور الغربية ولم يجده في الفن الياباني؟
الإجابة هي العمق الفضائي وثلاثية الأبعاد، وقد حذى هوكوساي حذو أسلافه الذين سعوا لاستخدام تلك الاساليب المأخوذة من الفن الغربي، وكانت له محاولاتٌ لاستخدام العمق والتعبيرات ثلاثية الأبعاد على وجه الخصوص في مناظره الطبيعية، وفي أثناء تلك الفترة لجأ هوكوساي تكراراً لرسم الكثير من صور الأمواج على وجه الخصوص، وحاول تصوير الأمواج بأسلوب الواقعية ذاته الذي وجده في الفن الغربي، وما يبدو على كثيرٍ من اللوحات المتبقية حتى الآن من نقص المهارة يدلّ على مدى الصعوبة التي كان يواجهها في محاولاته.
كان عمرُ هوكوساي قد تجاوز السبعين عندما أنتجَ صورة الموجة العظيمة قبالة ساحل كاناغاوا، وليس فيها ما يشير إلى أنها غير طبيعية أو غيرُ متقنة. فقد استوعب هوكوساي التراث الفني الغربي، واستخدمه في أعماله الفنية وتركيب الصورة المميز باللمحة العابرة لجبل فوجي من خلف الأمواج يدلّ على الإستفادة من إدراكه للبُعد الفضائي الذي تعلّمهُ من الغرب.
كما أنّ اللون الأزرق الذي استخدمه في هذه الصورة المطبوعة كان لوناً ارتبط في أذهان اليابانيين في ذلك الزمان بالغرب، وهو نوعٌ من الأصباغ الكيماوية أُخترع في ألمانيا في أوائل القرن الثامن عشر ويسمى "أزرق بروسيا"، وكان مرغوباً كلونٍ أزرق أفتح من النيلي الطبيعي الذي كان يُستَخدمُ في اليابان حتى ذلك الوقت. وكان الإكثار من استخدام اللون الأزرق عاملاً ساعدَ على ترويج المبيعات للمجموعة كلّها ومن بينها صورة الموجة العظيمة قبالة ساحل كاناغاوا، يقول كازاوا إن صورة هوكوساي كانت جديدة في اليابان وفي الغرب على السواء. فيتابع قائلاً : "الصور اليابانية لا تعطي عادةً قدراً كبيراً من الإحساس بالفضاء، وهي لا تحتوي على ظلال، لكنّ هوكوساي تأثرَ بالصور الغربية وظلّ فترةً يبذلُ جهوداُ عظيمة لإنتاج ذلك الإحساس بالأبعادِ الثلاثة وبالعمق، وقد تغيرت صوره بسرعة مع اتقانه لتلك الأساليب. كما أنّ الحس الفضائي الذي تعلّمه من الغرب، جعل من السهل على الناس في الغرب أن يفهموا فضاءات صوره، وفي الوقت ذاته احتوت صورهُ على عناصر شرقية مميزة جديدة بالنسبة للمشاهدين الغربيين، وأعتقدُ عن صورهُ جمعت بين هذين الجانبين، وأنّ كونه استطاع إيجادَ هذه النقاط المشتركة، إضافةً إلى النقاط التي لم تكن موجودة في تراثهم، جعل الناس يفهمون المحتوى بسهولةٍ أكبر."
مجموعة مناظر جبل فوجي الستة والثلاثين التي من بينها صورة الموجة العظيمة قبالة ساحل كاناغوا تصور الأشكال المتعددة لجبل فوجي كما يظهر من أماكن مختلفة، وكانت هذه الصور أكثر من مجرد مجموعة من المناظر الطبيعية.
جبل فوجي الجميل هو أعلى جبل في اليابان، وقد دأب الناس في القدم على عبادته بوصفه مكاناً مقدّساً، وفي زمن هوكوساي على وجه الخصوص، كانت عبادة جبل فوجي شائعةً، وكان الكثير من الحجاج يسافرون لأداء شعائرهم التعبديّة في الجبل، وكانوا يعتقدون أن تسلّق الجبل هي طريقةٌ لمعاينة الجنّة في هذه الحياة. ومن الواضح أنّ هؤلاء الناس أُخِذوا في الاعتبار عند رسم المناظر الستة والثلاثين لجبل فوجي. وربما يكون هوكوساي نفسه قد آمن بالقدرة الروحية لجبل فوجي.
هل كان الناس الذين يبحثون عن الخلاص في جبل فوجي مدفوعين بمشاعر قلقٍ معيّنة؟
لقد كانت تلك فترةً من الاضطرابات المتزايدة في اليابان.
أخذت السفن الأجنبية تظهر قبالة سواحل اليابان بوتيرةٍ متزايدةٍ اعتباراً من أواخر القرن الثامن عشر، وقبل عدة سنواتٍ من إنتاج هوكوساي لصورة الموجة العظيمة قبالة ساحل كاناغاوا، كانت حكومة الشوغون قد أصدرت أوامر بأنه في حال مشاهدة أيّ سفنٍ أجنبية فينبغي مطاردتها على الفور لإبعادها، ولكن ربما كان الناس قد بدأوا يشعرون أن العزلة التي استمرت قرابة 200 سنة لايمكن أن تستمرّ إلى الأبد. إنّ هوكوساي الذي كان قد تلقى طلباتٍ من تجارٍ هولنديين للحصول على صور ربما كان حسّاساً على وجه الخصوص لروح عصره الذي يتجه نحو التغيير. ويعتقد البعض أن تركيبة صورة الموجة العظيمة قبالة ساحل كاناغاوا بتلك اللمحة العابرة لجبل فوجي بين الأمواج المتلاطمة، تُظهِرُ المخاوف التي كان الناس يستشعرونها قبل بزوغ فجر العصر الجديد.
في عام 1854 أي بعد خمس سنواتٍ من وفاة هوكوساي فتحت البابان موانئها للولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا، وكان هذا هو التغيير الذي لم يلبث أن أشعل الفتيل لرواج الفن الياباني المسمى جابانيزم في الغرب، ولم يكن الفنانون الذين يرسمون الصور الوحيدين الذين تأثروا به، وكان الملحن الفرنسي كلود دو بوسيه يعلّق صورة الموجة العظيمة قبالة ساحل كاناغاوا في غرفة معيشته، وقيل إن الصورة ألهمته مقطوعة لاميغ "البحر" الموسيقية.
المؤرخة الفنية أكيكو مابوتشي مرجعٌ يُعتدُّ به حول موضوع التأثير الفني الياباني أو جابانيزم وهي تقول إنّ رواج الفن الياباني كانت له جذورٌ في شغف الفنانين الغربيين في تلك الفترة بابتكار أنماطٍ تعبيريةٍ جديدة.
وتقول : "كان البعضُ في تلك الأيام يشعرون أنهم محصورون في نطاقٍ ضيقٍ جداً من الناحية الفنية وأنهم يجدون صعوبةً في التنفس، وكانت هناك على سبيل المثال ردة فعلٍ متكررة ضدّ الأكاديمية الفرنسية وغيرها لوضعهم قواعد للرسم يتعين التقيّد بها، أو التعرّض لعدم الاعتراف، وفي الوقت الذي كان الفنانون يسألون أنفسهم عمّا إذا كانت هناك أنماطٌ تعبيريةٌ أخرى، وصل الفن الياباني، وكانت باريس مركزاً لعالم الفن في تلك الأيام، لذا فإن ما حدث هو أنّ الفنانين تعلموا أساليب الفن الياباني جابانيزم هناك، ثم عادوا به وطوّروه في بلدانهم ويمكننا القول إن وصول الفن الياباني كان سبباً رئيسياً لولادة الفن الحديث.
صورة الموجة العظيمة قبالة ساحل كاناغاوا للفنان هوكوساي تنقل مشاعر الفنانين في الشرق والغرب ممن لم يقنعوا بعوالمهم الذاتية المغلقة وكانوا دوماً يبحثون عن وسائل جديدة للتعبير.