24/05/2023
أنا المستبد العاطل , كلي مشاكلٌ مع الجميع , بحيث أشعر كثيرا أني أعيش وحدي , أو بالأصح مسجونٌ وحدي .
أطلقوا عليّ لقب المستبد منذ أن كنت ناعم الأظافر , رغم أن ما كان يبدو لي من نفسي ساعتها , هو شعورٌ بالجهاد المقدس من أجل إعلاء شأن الفكرة .
وكنت كغيري من المطُاردين من شعب مصر , أُطارد يوميا في الجرائد ووسائل الإعلام بأخبار تؤكد شيوع الفساد وإنحطاط الذوق , والإنحدار السريع للهاوية .
وأقنعني أحدهم بأن أزمة البشرية تكمن في المسافة بين الفكر والسلوك , فحاولت تضييق المسافة قدر الإمكان , فاصطدمت بنفسي وأصابتني آلام كثيرة , لم أُشفي منها حتي الآن .
اسمي مهاب الجعفري , بلدي في صعيد مصر , اسمها عزبة الأكراد علي تخوم أسيوط , وظيفتي هي البحث عن وظيفة , فمرة أنا مخرج , ومرة مصور , ومرة مونتير , ومرة كاتب , ومرة نحات , ومرة لا أجد قوت يومي .
عشت خمسا وثلاثين سنة من عمري الذي يبلغ الثالثة والأربعين ككل الناس , لي بيت وإمراة وطفلين كالملائكة , وسيارة , وعمل ثابت .
لكن لأن الشيء الوحيد الثابت هو التغير المستمر , فقد تغيرت حياتي عندما اشتعلت الثورة في أرجاء مصر .
ومع الآمال العريضة التي بثتها الثورة في النفوس , تصدعت روح المجتمع , وساد الإنقسام , والإغتراب , والتناقض , حتي أن مصر قد صارت هي النقيض لأي شيء .
خلال إستغراقي كالملايين في أتون الثورة , تخيلت أن المهمة الملقاة علي عاتقي أن أغير العالم , أو أن أعدله , لكني لم أستطع في النهاية سوي أن أتكيف معه رغما عني .
حين اتهمني القاضي الجالس علي المنصة بأنني أحاول أن أقلب نظام الحكم , وأسعي لبث روح تشاؤمية في المجتمع , وطرح أفكار سوداوية من شأنها تكدير السلم العام , لم يكن من مفر أمامي سوي المنفي .
أرسلت لي روزيت دعوة لللسفر إلي بولندا , وبسرعة البرق غصت في بلاد الثلج , لكن روزيت أشمست صقيع دنياي بدفئها الآسر .
معها روزيت آمنت وتيقنت بأن معجزة الحب أنه يستطيع أن يحيل الآخر الذي يبدو أمامنا كعائق إلي نقطة إرتكاز نستند عليها , وهذا ما حدث مع روزيت .
اتكأت عليها , وتحملتْ جمود روحي التي مزقتها الثورة .
عشت ثلاث سنوات في وارسو , في شارع اسمه نور الظلام يطل علي بحيرة راكدة , لا تتحرك مياهها أبدا .
ولأن الحب العميق دائما ما يتعرض لخطر الإنفصال , فقد انفصلت عن روزيت وأثناء جنون كنت دائما أستغرق فيه , ألقيت ملابسها وكتبها في نار المدفأة , وظلت تنظر للنار وتصرخ كالمجانين .
كل ما أعرفه أنها خرجت ولم تعد ثانية , وبعدها لم أجد حتي رغيف الخبز , ونمت في شوارع وارسو الصقيعية , ولم اجد بديلا سوي العودة لمصر .
لا أعرف ما الذي دفعني لأن أحرق ملابسها , هل كنت أنتقم من عالمها المستقر في مواجهة عالمي الهش ؟
هل كنت انتقم من نفسي ؟
لا أعرف , لكني ندمت علي خطأي معها , وأدركت أن الإساءة التي وجهتها لها ما هي إلا إساءة وجهتها لنفسي .
كان مسجد سيدنا الحسين موطني الأنسب بعد أن عدت لمصر , اسرني الصوفيون بهيامهم الدائم , لكني أردت للصوفية أن تقوم علي دعامة من العقل , فألقوا بي بعيدا عن أروقتهم , متهمين إياي بالإلحاد .
عدت مضطرا إلي حضن أصدقائي من الإشتراكيين الثوريين في حاناتهم المغلقة عليهم , رأيت أنهم يمثلون الإنسان الحر , وأنهم لا يعرفون وطأة الخطيئة , ولا يعفرون جباهم بالشعور بالذنب .
انغمست في عالمهم وأوعزوا إليّ أني حامل رسالة وصاحب سلطة , ودفعوني دفعا إلي التكيف مع الغوغاء في خيالاتهم الباهتة .
قالوا لي إذا كان لديك الأقاويل الجاهزة للرد علي كل أصحاب الفلسفات , فلك أن تبشر بأيام كلها سواد , لأنك ستقف أمام الكلمات خاشعا , وبعدها ستنام هانئا بإحساسك أنك قلت وقلت وقلت , أنت تستطيع أن تكتب وتكتب وتكتب وتكتب وتكتب ولا تصل لشيء إلا ما يريده من يضغط علي زناد الفعل .
مع أصدقائي الإشتراكيين الثوريين آمنت أن مشاغل الحياة الأرضية هي هم وعبء , واستغرقت كليا في البحث عن مطلق أستريح له , لكن ضميري أصابني بنوع من التمزق , فبمجرد ما أدركت ذاتي في إنعزالي عن الناس , فإنني سرعان ما وقعت ضحية للشعور بالوحدة والضعف .
ولم أجد طريقا سوي بالهروب منهم ( الاشتراكيون الثوريون ) وبحثت عن الله , وأردت ان اجعل الخيال طريق لذلك , وعندما قاربت علي الوصول تعثرت , فسموم الشيطان لم تترك لخيالي فرصة للنجاة .
أنا يا سادة بدون مجاملات لنفسي , رجل غريب , منعزل , لا يعرف له وطنا غير الأفكار , أشعر دائما بحاجة لإله يحميني , يقف بجانبي , ربما كانت الوحدة القاسية التي عشتها وحتي وأنا في حضن إمرأتي , هي ما دفعتني إلي تسليم حياتي كاملة لله , فوجدت في الحضرة الإلهية حصنا منيعا يحميني ضد العالم الخارجي .
وكنت علي إستعداد كإشتراكي ثوري مؤمن أن أضحي بأي شيء في سبيل الله .
ولأنهم رأوني مهرطقا حاول المزيج بين الله وبين أفكارهم , قالوا لي في إجتماع عقدوه لفصلي من التنظيم ( ما أنت سوي حمار ميت , يحتقر الواقع ويزدري الناس , ويخيل إليه أنه قد اهتدي إلي المفتاح الذي يفض جميع الأسرار , وكأنه النهاية الحتمية للبشر ) .
وبصقوا علي أفكاري وقالوا لي ( لا تتخيل أن حيلك الفلسفية الخداعة , واستسلامك لأحلام تنبؤية كاذبة , وارتماءك في حضن أفكار بهلوانية عابثة , قد يحميك من السجن , الذي سيكون مصيرك الوحيد ) .
الآن أنا وحيد بلا روزيت وبلا اصدقاء , أحاول أن أتصالح مع العالم , أحاول أن أتجاوز مثاليتي التي أدركت في النهاية أنها داء عقيم يجب أن أُشفي منه .
دعوني في النهاية أقول أنني ترددت كثيرا في الكتابة عن نفسي , ورأيت أنني لا بد سأدور في دائرة مربعة , شئت أم أبيت , وأنني لا بد سأفتح عيني في عجز ودهشة علي أفكار بهلوانية أو ضروب من السحر والشعوذة , وآخر الأمر لا بد سأهزأ من نفسي .
وبالفعل توترت طويلا وأنا أحاول الكتابة عن نفسي , ومزقت مرات ومرات ما كتبت , حتي رضيت بالمحاولة , وقلت في النهاية لنفسي أيا كان ما سيكون فلا بد أن تدرك أن تاريخ العالم وتاريخ مصر قد تجاوزك , وأنك لست إلا مستبدا عاطلا هزم نفسه بعشق حربه التي لم تكن لازمة لكي يعيش أو حتي لكي يموت .